الانسحاب الأمريكي

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٠٧/يناير/٢٠١٩ ٠٣:٥٩ ص
الانسحاب الأمريكي

راميش ثاكور

كان الأسبوع الفائت لعيد الميلاد عندما أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قنبلة أخرى من البيت الأبيض. ففي تغريدة واحدة على موقع تويتر، قرر ترامب سحب كل القوات الأمريكية من سوريا في غضون الأشهر المقبلة؛ وفي اليوم التالي، أعلنت إدارته أن عدد القوات في أفغانستان (14500 جنديا حاليا)، سوف ينخفض إلى النصف.

وفقا لصحيفة التايمز، «جاء القرار الذي اتخذه ترامب بالانسحاب من سوريا أثناء اتصال هاتفي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوجان، وكان القرار مفاجئا لقيادات الدفاع الأمريكية. بعد الإشارة إلى أن تنظيم (داعش) انهزم بنسبة 99 %، ذهب أردوجان إلى تذكرة ترامب بتصريحاته الفائتة التي وصفت داعش بأنه السبب الوحيد لوجود الولايات المتحدة في سوريا. وكأن هذه كانت الإشارة لدوره في الكلام، سارع ترامب إلى التغريد على موقع تويتر قائلا: «لقد هزمنا داعش في سوريا، السبب الوحيد لوجودنا هناك».

وقد قوبِل إعلان الانسحاب من سوريا وخفض القوات في أفغانستان بارتياع في واشنطن، وبين حلفاء الولايات المتحدة، وداخل حكومة ترامب ذاتها. فاستقال كل من وزير الدفاع جيمس ماتيس والمبعوث الرئاسي الخاص للتحالف العالمي لدحر داعش بريت مكوريك، احتجاجا على القرار. ومع ذلك، فإن قرار ترامب لم يأت مطابقا لأحد وعوده الانتخابية فحسب؛ بل جاء أيضا ليؤكد صحة انتقاد الرئيس الاسبق باراك أوباما لما أسماه «دليل ألعاب واشنطن» الذي يصف استجابات عسكرية لأغلب الأزمات الخارجية.
وفقا لتقرير خدمة أبحاث الكونجرس لعام 2015، على مدار 191 سنة تنحصر بين عام 1798 وعام 1989، استخدمت الولايات المتحدة القوة في الخارج 216 مرة، أو 1.1 مرة سنويا في المتوسط. وعلى سبيل المقارنة، نشرت الولايات المتحدة قواتها العسكرية 152 مرة ــ 6.1 مرة سنويا ــ في السنوات الخمس والعشرين التي تلت نهاية الحرب الباردة.
على الرغم من الزيادة التي بلغت ستة أضعاف تقريبا في وتيرة استخدام القوة فإن الولايات المتحدة لم تحقق في العقود الأخيرة سوى قِلة من الانتصارات العسكرية الحاسمة، إن كانت حققت أيا منها على الإطلاق. أوصى روبرت لوفيت، وزير الدفاع في إدارة الرئيس ترومان، في مواجهة الأزمات السياسية التي تنطوي على مخاطر عظيمة في مقابل مكاسب صغيرة: «دعك من قطعة الجبن؛ ولنهرب من المصيدة». وينبغي للولايات المتحدة أن تنسى قطعة الجبن المتمثلة في «السلام الأمريكي» في منطقة الهلال الإسلامي، فتهرب من مصيدة التدخل وتعيد القوات إلى الوطن.
في أفغانستان، لم يتمكن أوباما ولا سلفه جورج دبليو بوش من الإجابة بشكل مرض على ثلاثة تساؤلات حاسمة: لماذا لا يزال الأمريكيون هناك؟ ما هي المصالح التي تبرر تضحيات أمريكية بلانهاية؟ كيف تنتهي الحرب؟
ظلت هذه التساؤلات بلا إجابة على الإطلاق لأن الفشل في الرد عليها لم يستفز أية عواقب سياسية.
يلاحظ جو كوين، الجندي المتمرس الذي شارك في ثلاث عمليات نشر قوات في أفغانستان والعراق واصفا سلوك أمريكا هناك طوال سبعة عشر عاما: «لقد جربنا كل شيء: المشاركة الخفيفة، والتدخل الثقيل، والحرب التقليدية، ومكافحة التمرد، ومحاربة الفساد، وزيادة القوات، وخفض القوات». وبعد أن طلب منه شرطي أفغاني كان يحرس نقطة تفتيش أن يعطيه ما لديه من مال تحت تهديد السلاح، أدرك كوين أن 68 بليون دولار أنفقت على القوات الأفغانية لم تجلب «المكونات الأساسية لإنشاء قوة محارِبة: الولاء، والشجاعة، والنزاهة».
في سوريا، تسبب التدخل الخارجي في إطالة أمد الصراع وزيادته حِدة وشراسة، فضلا عن الخسائر في صفوف المدنيين والمعاناة، لكنه فشل في إزالة الأسد من السلطة. وعلى هذا فإن التدخل الغربي لم يفض إلا إلى تفاقم السياسة المعطلة الفاسدة المختلة في مختلف أنحاء المنطقة، من أفغانستان عبر الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا. الواقع أن أي أزمة إنسانية لن تكون بالغة السوء إلى الحد الذي يعجز معه التدخل الخارجي من جعلها أشد سوءا.
يمكن تقسيم جوقة الانتقادات التي قوبل بها إعلان ترامب في الكريسماس إلى أربع حجج أساسية. الأولى تتمثل في أن الانسحاب المتهور من شأنه أن يزعزع استقرار المنطقة. لكن الانسحاب بعد سبعة عشر عاما من القتال المستمر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليس «تهورا» أو تسرعا بأي حال من الأحوال. فبعد التدخلات الأمريكية المتتابعة أصبحت المنطقة تنزف بشدة، ومنكسرة، ومختلة وظيفيا. وإذا جردنا هذه الحجة من المغالطة والسفسطة فإنها تصبح مجرد عبث: «لأن التدخلات العسكرية الأمريكية فشلت، فلابد من الإبقاء عليها إلى أجل غير مسمى».
في ذات الوقت، تفر من الجندية القوات الأفغانية المثبطة المعنويات والفاسدة في جماعات، وتستعيد حركة طالبان قوتها، بعد أن أصبحت أكثر دهاء من الناحية التكتيكية مع كل عام يمر. والآن استعادت الحركة مساحات شاسعة من الأرض التي خسرتها بعد الاحتلال الأمريكي. وأصبح الوجود العسكري الأمريكي جزءا من المشكلة، وفي هذه الحالة فقد يساعد الخروج في إعادة ترسيخ التوازنات المحلية والإقليمية.
تتلخص الحجة الثانية في الإشارة إلى أن «الحرب على الإرهاب» لم تنته بعد. لكن هذا ينطوي على نبوءة ذاتية التحقق. ففي نهاية المطاف، تسببت حرب أمريكا الطويلة ضد الإرهاب منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، في خلق عدد من المتطرفين أكبر كثيرا من عدد الذين أزالتهم. وتحولت أفغانستان، وباكستان، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا إلى أرض خصبة لتوليد المتعصبين الذين ينضحون بالكراهية لأمريكا والأمريكيين. ولا تملك الولايات المتحدة ما يلزم من الخبرة أو القدرة أو قوة الإرادة لإدامة جهود بناء الأمة الناجحة في مثل هذه البيئات العدائية. فضلا عن ذلك، كانت بعض الدول الشرق أوسطية حليفة أمريكا القديمة، العنصر الرئيسي في تمكين الأصولية في مختلف أنحاء المنطقة.
تزعم الحجة الثالثة أن انسحاب الولايات المتحدة يرقى إلى نصر لروسيا وإيران. لكن أولئك الذين يسوقون هذه الحجة لابد أن يراجعوا الخريطة. فكل من روسيا وإيران جارة للشرق الأوسط، في حين يفصل محيط بين الولايات المتحدة والمنطقة. وإذا كانت روسيا راغبة في امتلاك الصراع السوري والعودة إلى أفغانستان ــ مقبرة الإمبراطوريات ــ فلا ينبغي للولايات المتحدة أن تقف في طريقها.
تحذر الحجة الأخيرة من أن انسحاب الولايات المتحدة يجعل إسرائيل عُرضة لأعدائها الفتاكين. لكن إسرائيل تُعَد القوة العسكرية الأكثر شراسة وهولا في المنطقة والدولة الوحيدة المسلحة نوويا فيها.
في نهاية المطاف، لا يوجد لدى منتقدي الانسحاب الأمريكي أية بدائل حقيقية يمكنهم تقديمها. وإذا وافق ترامب على ترك القوات الأمريكية في مكانها لستة أشهر أخرى، ثم ستة أشهر أخرى، فسوف يتساءل الناخبون الأمريكيون عن السبب الذي جعل ترامب يكسر وعده الانتخابي. وإذا طرح ترامب نفس السؤال على الجنرالات فسيقولون: «سيدي الرئيس، نحن نصنع الاستراتيجية العسكرية وليس السياسة. وبالمناسبة يا سيدي، نحن في احتياج إلى ستة أشهر أخرى لإنهاء المهمة».

مساعد الأمين العام السابق للأمم المتحدة ، وأستاذ فخري في مدرسة كراوفورد للسياسة العامة ، الجامعة الوطنية الأسترالية