فراغ الزعامة

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٧/يناير/٢٠١٩ ٠٥:١٥ ص
فراغ الزعامة

آنا بالاسيو

يبدو الأمن عبر الأطلسي اليوم أشبه كثيرا بطائرة ضالة. فبسبب عجز «أفراد الطاقم» ــ بعد أن أصبحوا مجردين من الأفكار أو القدرة على القيادة ــ تطير الطائرة على جهاز الطيار الآلي إلى أن تصطدم حتما بجسم ما أو ينفد وقودها وتهوي من السماء. ولتجنب الكارثة، يجب أن يفيق أولئك في قمرة القيادة ـ وعلى الفور.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تولت الولايات المتحدة، باعتبارها القوة الغربية (والعالمية) المهيمنة، قيادة الأمن عبر الأطلسي. ولكن في عهد الرئيس دونالد ترمب، لم تعد الولايات المتحدة تضطلع بدور قيادي أساسي. الواقع أنه لم يعد من الواضح حتى من في إدارة ترمب يدير دفة الأمور حقا. واليوم بات من المعقول أن تطرح أوروبا نفس السؤال الاستنكاري الذي طرحه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر: «بمن أتصل إذا أردت أن أتحدث مع أوروبا؟»، فتقول «بمن أتصل إذا أردت أن أتحدث مع أميركا».

عندما وصل ترمب إلى السلطة، كان حلفاء أميركا في أوروبا (وفي قسم كبير من بقية العالَم) يتصورون أنهم يعرفون الإجابة على هذا السؤال. فكانوا يأملون أن تدعم الولايات المتحدة الوضع الراهن في نهاية المطاف، بصرف النظر عن التبجح والتهديد والوعيد الصادر عن البيت الأبيض. وكانوا يطمئنون أنفسهم بأن السياسة الأميركية لن تمليها تغريدات ترمب العاصفة، بل يمليها «البالغون» الأكثر جدارة بالثقة في حكومته ــ ركس تيلرسون، أول وزير خارجية في حكومة ترمب؛ وماكماستر، ثاني مستشار للأمن القومي في حكومته؛ وجيمس ماتيس، وزير دفاع ترمب.
الآن، رحل هؤلاء جميعا. وكان آخر المغادرين ماتيس، الذي رحل بعد إعلان ترمب المفاجئ عن اعتزامه سحب كل القوات الأميركية من سوريا ــ وهو قرار سياسي جسيم اتُخِذ على نحو هازئ وضد نصيحة ماتيس ونصيحة وزارة الدفاع. وكان خطاب الاستقالة اللاذع الذي تقدم به ماتيس عامرا بالانتقاد اللاذع لترمب لأنه «لا يتعامل مع الحلفاء باحترام»، أو لأنه «عاجز عن التمييز بين القوى الخبيثة والمنافسين الاستراتيجيين». وقال ماتيس لترامب: «لديك الحق في الحصول على وزير دفاع تتفق وجهات نظره مع وجهات نظرك».
نظرا للمبررات التي ساقها ماتيس للرحيل، فربما كان المرء ليتخيل أن استقالته قد تجعل السياسة الأميركية أكثر قابلية للتنبؤ بها على الأقل. وبدلا من التساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة لتتخلى عن حلف شمال الأطلسي كما اقترح ترمب، أو تقف إلى جانبه كما وعد كبار المسؤولين في إدارته، تستطيع أوروبا أن ترد على رسالة واحدة. وربما لا تكون هذه الرسالة موضع ترحيب، بل وقد تكون خطيرة، ولكن سيعلم الآخرون على الأقل أين يقفون. لكن الرسائل الشاذة المختلطة لم تنقطع ــ بل ازدادت. ففي التاسع عشر من ديسمبر، في أعقاب محادثة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كتب ترمب على موقع تويتر: «لقد هزمنا داعش في سوريا، التي كانت السبب الوحيد للبقاء هناك خلال رئاسة ترمب». وفي اليوم التالي قال في تغريدة أخرى: «روسيا وإيران وسوريا وكثيرون غير سعداء... لأنهم الآن سيضطرون إلى محاربة داعش وآخرين، الذين يكرهونهم، دون مساعدتنا». ثم في بداية يناير، أُرسِل مستشار جون بولتون إلى الشرق الأوسط لبث الطمأنينة في أنفس الحلفاء ــ وخاصة إسرائيل ــ بشأن قرار ترمب. وتخشى هذه الدول أن يسمح انسحاب القوات الأميركية المفاجئ لتنظيم داعش بالبقاء بل وربما حتى التعافي، وأن يترك القوات الكردية التي كانت جزءا أصيلا من القتال ضد داعش مكشوفة للهجمات التركية، ويسمح لإيران بالتمركز المتقدم غير المقيد في سوريا. وهي مخاوف مشروعة ــ مشروعة إلى الحد الذي جعل التراجع السريع عن إعلان ترمب الكبير بشأن سوريا أمرا حتميا.
لم يكن هذا نتيجة لسهو أو خطأ غير مقصود أو سوء تنظيم في إدارة ترمب. ولم تكن حالة قيادة غير فعّالة أو مضللة. إن ما يحدث للسياسة الخارجية الأميركية يعكس الافتقار إلى أي نوع من القيادة على الإطلاق. وعند هذه المرحلة، لا أحد يعرف ما هي السياسة الأميركية أو حتى من يصنعها. وليس من المستغرب أن يصبح مجتمع عبر الأطلسي بالكامل منجرفا بلا دفة.
في الشهر المقبل، يجتمع عمداء السياسة الدولية والدبلوماسية لحضور مؤتمر ميونيخ الأمني السنوي. ورغم أن أهمية هذا الحدث ازدادت على مر السنين، وأصبح الآن يغطي القضايا العالمية، فإن مجتمع عبر الأطلسي يظل يشكل جوهره. وعلى هذا فإن هذا المؤتمر يمثل فرصة مهمة لإدارة مناقشة صريحة حول الافتقار التام إلى القيادة في ما يتصل بالأمن عبر الأطلسي.
في العام الفائت، اختار مؤتمر ميونيخ الأمني عنوان «إلى حافة الهاوية ــ ثم العودة» كموضوع يحمل بعض الأمل. وفي عامنا هذا، ينبغي له أن يختار موضوع «هل يوجد أي شخص على عجلة القيادة؟» ربما يقول الأميركيون في قاعة الاحتفالات بفندق بايريشر هوف في ميونيخ «أجل». لكنهم ليسوا من يحتلون قمرة القيادة.

وزيرة خارجية أسبانيا السابقة