الخروج البريطاني... معاناة مستمرة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٣/يناير/٢٠١٩ ٠٠:٣٦ ص
الخروج البريطاني... معاناة مستمرة

روبرت سكيدلسكي

إذا فقد نجت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي من التصويت على سحب الثقة منها داخل حزبها لتواصل معركتها. فقد أكد أعضاء حزب المحافظين في مجلس العموم ثقتهم مجددا في زعامة ماي بأغلبية 200 صوت مقابل 117، لتحقق انتصارا لا يمكن وصفه بالكبير أو المدوي. ولا أعتقد تقريبا أن هناك رئيس وزراء بريطانيا اصطدمت زعامته بهذا الكم من الأزمات المستمرة كالتي واجهتها ماي. وعلى الفور شرعت ماي، كامرأة عنيدة شرسة أكثر من كونها امرأة حديدية، في جولة جديدة من الجهود لانتزاع تنازلات أخرى قليلة من القادة الأوروبيين لجعل اتفاقية الطلاق أكثر قبولا لدى حزبها على الأقل، إن لم تكن لدى غالبية العامة.

اختار الشعب البريطاني في يونيو من عام 2016 الخروج من الاتحاد الأوروبي بهامش ضئيل ــ 51.9% مقابل 48.1% ــ في استفتاء قومي. وبعد الاحتكام إلى المادة 50 من معاهدة لشبونة، تقرر أن تغادر بريطانيا الاتحاد في 29 مارس عام 2019. لكن قضايا مثل المسألة الأيرلندية، والسياسة الداخلية لحزب المحافظين، والحسابات البرلمانية جعلت عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي غير سلسة على الإطلاق.

تشترك بريطانيا مع جمهورية أيرلندا في خط حدودي بري يفصل الأخيرة، التي ستظل في الاتحاد الأوروبي، عن أيرلندا الشمالية، التي تعد جزءا من بريطانيا. ومن ثم فإن الخروج البريطاني أو البريكزيت من شأنه أن يُخرج أيرلندا الشمالية من الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، بينما ستظل جمهورية أيرلندا داخله. لذا تبذل ماي جهودا مضنية لضمان اتفاق يمنع وجود حد «معقد» يطبق إجراءات التدقيق الجمركي.
إن مسألة كهذه لا تعد من قبيل المواءمة الاقتصادية فحسب، بل هي مسألة حياة أو موت حقا. فعندما نالت أيرلندا استقلالها عن بريطانيا عام 1922، بقيت ست مقاطعات أغلبها بروتستانتية في المملكة المتحدة بموجب نظام للحكم المفوض. كما استمر تقليدان من التقاليد الموروثة في المملكة المتحدة البتراء وهما: التجارة الحرة، وحرية حركة العمال بين بريطانيا والدولة الأيرلندية الجديدة.
وقد أشعل هذا النصر غير المكتمل على بريطانيا استياء وغضبا داخل جمهورية أيرلندا التي يتبع غالبية سكانها المذهب الكاثوليكي، وحتى عام 1999، كان الدستور الأيرلندي يتضمن تعهدا «بإعادة دمج» الجزيرة بأكملها. في الوقت ذاته، تعلقت الغالبية البروتستانتية المتقلصة في أيرلندا الشمالية بالرباط البريطاني بشكل أكثر تعصبا من أي وقت مضى. وبعد ثلاثة عقود من النزاع العنيف بين المجموعات القومية الأيرلندية والمجموعات البروتستانتية بالإقليم، والتي أسفرت عن وفاة 3600 شخص، جاء اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998 ليضع مرسوما تنفيذيا قضى بتقاسم السلطة بين الوحدويين والقوميين في أيرلندا الشمالية، إضافة إلى تأسيس المجلس البريطاني الأيرلندي، كبادرة لعلاقات متناغمة مع جمهورية أيرلندا.
إن أي تعقيد للحدود قد يعرض السلام الهش الذي تم التوصل إليه بموجب اتفاق الجمعة العظيمة للخطر. وفي حال انهيار اتفاق تقاسم السلطة، ستكون هناك حالة من التربص من أنصار العنف في كلا الجانبين. ولتفادي هذا الأمر، تنص خطة ماي على خروج بريطانيا مع بقائها «مؤقتا» في الاتحاد الجمركي انتظارا للمفاوضات بشأن إقامة منطقة تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، مع وجود «مصد خلفي» يتمثل في ضمان حدود مفتوحة بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا، بغض النظر عن ما قد يحدث.
وكأن هذا لم يكن سيئا بما يكفي، فإذا بنا نجد البرلمان منقسما بين مؤيدي الخروج ومؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي، حيث يمتد هذا الانشقاق ليشمل الحزب المحافظ الحاكم وحزب العمال المعارض.
ينقسم مؤيدو البقاء في الاتحاد الأوروبي إلى ثلاث مجموعات: اليساريون الذين يرون في نهج «السوق الاجتماعية» الذي يطبقه الاتحاد الأوروبي مصدرا لحماية العاملين البريطانيين، وأصحاب المصالح التجارية والمالية المهمومون بحساب التكاليف الاقتصادية المترتبة على الخروج البريطاني، والمثاليون الذين يريدون أن تلعب بريطانيا دورا بناءً في توحيد أوروبا سياسيا. كذلك ينقسم مؤيدو الخروج إلى ثلاث مجموعات: مجموعة التاتشريين (المتأثرين بفكر مارجريت تاتشر) الذين يرون بروكسل (كونها عاصمة الاتحاد الأوروبي) «دولة مهيمنة» منكبة على خنق الأعمال الحرة، ومجموعة متداخلة تتصور بريطانيا كجزء مستقل من نظام عالمي للتجارة الحرة، وأولئك الذين «يرغبون في التخلص من الغير» الذين يريدون الحفاظ على هوية بريطانيا الثقافية ومنع دخول الأجانب إليها.
كذلك تعد الحسابات البرلمانية أمرا مهما، رغم نتيجة الاستفتاء، بعدما أجبرت ماي على الاعتراف بأن البرلمان ستكون له الكلمة الأخيرة في أي اتفاق يتم التوصل إليه، مما أعطى مؤيدي البقاء أملا في قلب نتائج استفتاء 2016 من خلال «تصويت شعبي» ثان.
تعكس تركيبة القوى البرلمانية الحالية آثار قرار ماي الكارثي بالدعوة لانتخابات عامة مبكرة في 2017، والتي أسفرت عن فقدانها أغلبية كانت لحزبها ــ حزب المحافظين ــ في البرلمان. بل يظل أعضاء حزب المحافظين الباقون في البرلمان، وعددهم 317، منقسمين بنسبة 200 إلى 100 تقريبا بين مؤيدين لخطة ماي المقترحة للخروج، ومن يريدون «الخروج العشوائي» لبريطانيا دون اتفاق.
في أحسن الأحوال، ليس مؤكدا أن يحظى اتفاق ماي بدعم المعارضة ــ التي تتألف من 257 عضوا برلمانيا من حزب العمال و35 عضوا برلمانيا من الحزب القومي الاسكتلندي. بالمثل، فإن أعضاء البرلمان العشرة المنتمين لحزب الاتحاد الديمقراطي الأيرلندي الشمالي، الذين تعتمد الحكومة الآن على دعمهم، ممزقون بين الميل للتجارة الحرة مع الجنوب والخوف من الذوبان في جمهورية أيرلندا إذا غادرت بقية بريطانيا الاتحاد الجمركي. وقد استنكر حزب الاتحاد الديمقراطي كل الأحاديث التي دارت عن وجود تسوية خاصة أو «مصد خلفي» لتمكين أيرلندا الشمالية من البقاء في الاتحاد الجمركي بدلا من اتفاق للتجارة الحرة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
ونظرا للانقسامات داخل حزب ماي، فقد تضطر رئيسة الوزراء إلى التعويل على البرلمانيين من حزب العمال لتمرير اتفاقها من خلال البرلمان. فلا أحد يعرف كيف سيصوت أعضاء البرلمان من حزب العمال، حيث يواجهون دوافع مختلطة. فمن ناحية، قد يفضي التصويت لصالح مؤيدي الخروج بغية إفشال اتفاق ماي إلى انتخابات عامة يستطيع حزب العمال الفوز بها. لكن من ناحية أخرى، قد لا تكون لدى زعيم الحزب، جيريمي كوربين، شهية كبيرة لقبول الكأس المسموم الذي ستمرره إليه ماي.
هناك من الدوافع المنطقية ما يجعلنا نقول «إذا كان البرلمان لا يستطيع الفصل في الأمر، فلنرم الكرة مجددا في ملعب الشعب». لكن ليس هناك وضوح بشأن ما يمكن طلبه تحديدا من «الشعب». والسعي لتصويت ثان على أساس عدم الرضا عن نتيجة التصويت الأول يعد لعبا بالنار. ثمة قضية أخرى إضافية ينبغي وضعها في الحسبان وهي: أن درجة الكراهية التي يكنها مؤيدو الخروج للاتحاد الأوروبي أشد من درجة حب مؤيدي البقاء له. وفي حال فوز مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي بتصويت ثان، ستظهر حالة من الاستياء الانفعالي التي ستعكر صفو السياسة البريطانية لسنوات مقبلة. لذا، ليس أمامنا إلا أن نأمل في أن تحصل ماي على الطلاق الودي الذي تبتغيه عندما يصوت البرلمان بصفة نهائية على الاتفاق في يناير.

عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ

الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك.