محمود شعبان.. النيل الذي لن يجف

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٢٣/يناير/٢٠١٩ ٢٣:٤١ م
محمود شعبان.. النيل الذي لن يجف

أحمد بن عيسى الشكيلي
جاء لعُمان كغيره ممن قدموا إليها ليعيشوا تجربة حياة جديدة، جاءها غريبًا لا ينوي أن يطول مقامه فيها، هكذا كان يقول عن بداياته التي قادته إلى عُمان، ولم يكن يعلم أن بقاءه سيطول على هذه الأرض، لم يكن يعلم أن قلوب العمانيين ستنفتح له قبل بيوتهم، وسيحجّ العمانيون إلى عيادته من كل فجٍّ عميق ليستقبلهم بابتسامةٍ ما فارقت وجهه ودعابة لم تبرح نفسه النقيّة.
محمود شعبان.. ذلك الطبيب الإنسان الذي جاء لعُمان وكأنه تِرعة من تِرع النيل، تصب مياهها في آبار روي فيرتوي منها كل من أعياه الظمأ، على شارع النور تتقاطر أفواج البشر قاصدة عيادته، فما إن تدلف إلى شارع الإسكان إلا وتنساب الطمأنينة إلى نفوسهم، فعلاج محمود لا يقتصر على قرص حبوب أو شربة دواء، أو حقنة مسكّنة تُنسي الألم لفترة ثم يعود من جديد.
على ناصية السكة رقم 2985 المتفرعة من شارع الإسكان بحي النور، جموع من البشر تأتي وجموع أخرى تغادر، فعلى هذا المكان يتزاحم البشر للدخول إلى عيادة بنو همدان، تلك العيادة ذات المبنى المتواضع البسيط التي جعلها محمود شعبان مزارًا إنسانيًّا قبل أن يكون صحيًّا بحسن تعامله، ورقي خلقه، وتواضعه، إلا أنها عالية غالية راقية فخمة بالأسلوب الذي جعله له شرعة ومنهاجا بين مرضاه وكل من يقصده في أمر، فعلى غرفها الضيّقة أجسادٌ أعياها المرض وأطفالٌ لم يفقهوا من الحياة شيئًا بعد، وأجسادٌ أخرى تنتصب واقفة على مدخل العيادة وخارجها، تنتظر فسحة في المكان لعل الزمان يسمح لهم بالدخول، تبقى واقفة حتى يخرج أحد ليحلّوا محله، فمن يقصد محمود ليسوا بالعدد الهيّن، يتسابقون إليه حتى قبل شروق الشمس، وقبل أن تفتح العيادة أبوابها من بعد الظهيرة، جميعهم أتو لمحمود، أتو إليه بعد أن سمعوا عنه، جاؤوه تئنُ أجسادهم من الألم ليتركوه والأمل يملأ نفوسهم بأن القادم أفضل، وما هي إلا شدّة وتزول، وعكة دواءها كلمة، ومرضٌ علاجه ابتسامه، ويأسٌ ينتهي بمجرد أن يدخل المريض إلى غرفة هذا الطبيب الإنسان.
كثيرة هي تلك المواقف التي تمر على شريط الذكريات حينما يرد اسم محمود شعبان، ويا للألم الذي أصاب النفس حين تلقّت نبأ وفاته بعد هذه السنين التي قضاها بيننا إنسانًا، تشهدُ على إنسانيته سكك ودروب حي النور بروي، كما يشهد له بذلك أهلها وسكّانها، شاء القدرُ ذات حين أن أسكن الحي ذاته الذي تقع فيه عيادته، فعرِفتُ محمود شعبان حينها كما عرفه الكثيرون غيري من أبناء عُمان، عرفته طبيبًا يقصده البشر، وقصدته معهم في أكثر من عارضٍ صحيّ ألمَّ بأطفالي حين عجز عنه غيره من الأطباء، فخبرتُ إنسانيته، وتيقّنت من نبوغه وبراعته، فما عادت بعد ذلك تفصلني عنه المسافات حتى ولو كنتُ بعيد الدار عنه، لأن طاقة الجذب التي يمتلكها لا يحدّها مدى.
وكم هي كثيرة تلك الدموع التي تسيل حرقة على فراقه، فكم من لحظة ضعفٍ يسّره الله لنا فيها ليخرجنا منها، وكم من دموع ألمٍ أحالها إلى أملٍ استشرفنا معه متعة الحياة وروعتها، فعلى أسرَّة عيادته تعالى بكاء الأطفال، وعليها أيضًا أشرقت ابتسامتهم بلباس الصحة والعافية، على تلك الأسرّة تهاوت الأجساد مُثقلة بمرضها، ومنها قامت تمخر دروب الحياة سليمة مُعافاة في بدنها، فلم يكن محمود شعبان بالمعجزة التي جاءت في عصر انتهاء الأنبياء، لكنه كان يمضي بين الناس بروح نبيّ وخُلقه، ما وجدته يومًا عابسًا، ولم أجده مكفهّرًا برغم ما تُلقيه الحياة من براثنها في جسد ونفس انسان اغترب عن بلاده وبعُد عن أهله وأحبائه، كانت ابتسامته أبلغ طريقة وأقصر درب يُعالج بها مرضاه، فيكسب ودّهم وحبّهم، لم تكن المادة هدفه، ولم يبحث من عيادته عن الثراء بقدر بحثه عن رسم البسمة على شفاه من يقصده، فيصبح ثريَّا بالحُب لا بالمال، فالمال إلى زوال، ولكن حُب الناس هو الباقي، ويا لحظ وسُعد من يبقى ذكره على ألسنة البشر زاخرًا بالخير، حتى وإن غاب عنهم، يبقى بينهم بروحه وإن فارقهم بجسده، ولا ينال هذا إلا الخيّرون من البشر فطوبى لمحمود شعبان بهذه المنزلة التي عمر بها قلوب العُمانيين في حياته، وما زال وسيبقى يعمرهم بها وجسده تحت التراب.
فوداعًا أيها النيلُ الذي لن يجف ماء إنسانيته في قلوبنا إلا بتوقفها عن الحياة، ستبقى حاضرًا بيننا نذكرك بالحسنى، ونحكي قصتك لأبنائنا، فمثلك نسيانه صعب، ومثلك فراقه أصعب، إلا أن القدر لا مفر منه ولا حذر.