التوجهات الانتحارية لبريطانيا

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٤/فبراير/٢٠١٩ ٠٢:٤٩ ص
التوجهات الانتحارية لبريطانيا

إيان بوروما

ان مشاهدة مجتمع ديمقراطي معقد يسير وهو يعلم ذلك الى كارثة وطنية متوقعة ويمكن تجنبها هي عبارة عن تجربة نادرة ومزعجة فمعظم السياسيين البريطانيين يدركون تماما ان الخروج من الاتحاد الاوروبي بدون اتفاق على العلاقة ما بعد بريكست سيتسبب بضرر ضخم للبلاد. هم لا يسيرون وهم نائمون الى الهاوية فعيونهم مفتوحة تماما.

ان هناك قلة من الايديولوجيين المخدوعين لا يمانعون باحتمالية خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي بدون صفقة وهناك قلة من الحالمين الشوفينيين المتعصبين من اليمين بتحريض من بعض الصحف يعتقدون ان روح دنكيرك التي تمثل القوة والشجاعة ستنتصر على النكسات المبكرة وان بريطانيا العظمى ستسيطر مجددا على البحار كقوة عظيمة تشبه القوى الامبراطورية وان بدون امبراطورية كما يبدو ان التروتسكيين الجدد من اليسار بما في ذلك جيرمي كوربين زعيم المعارضة الرئيسية في حزب العمال يعتقد ان الكارثة ستحفز الشعب البريطاني على المطالبة بالاشتراكية الحقيقية اخيرا.

إن معظم السياسيين على اليسار واليمين -بما في ذلك رئيسة الوزراء تيريزا ماي التي قبل استفتاء بريكست كانت مؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي- يعرفون الوضع الحقيقي ولكن جميعهم تقريبا يرفضون ان يفعلوا اي شيء من اجل وقف انزلاقهم تجاه خروج كارثي بدون صفقة. لقد تم التصويت برفض الاقتراحات في البرلمان التي تسعى لتأخير الخروج او النظر في بدائل لاستراتيجية ماي للخروج والتي لا تحظى بشعبية. ان السياسات الحزبية ووسائل الاعلام القومية المتعصبة والجهل الغريب بأي شيء خارج الجزر البريطانية يبدو انه قد أدى الى حالة من الشلل في الارادة الجماعية للسياسيين البريطانيين وعوضا عن العمل من اجل تجنب الاسوأ فهم يخدعون انفسهم بأن المزيد من المحادثات والمزيد من التنازلات من بروكسل سوف تنقذ بطريقة او بأخرى بريطانيا في آخر لحظة.
إن هذا المشهد الغريب من الانتحار الوطني وان كان غير معتاد فإن له سوابق تاريخية فانحراف اليابان تجاه الحرب الكارثية مع الولايات المتحدة الامريكية سنة 1941 هو من الامثلة على ذلك وبالطبع هناك فروقات واضحة فبريطانيا لا تهدد بالدخول في حروب مع أي طرف على الرغم من كل تلك الخزعبلات المتعلقة بطائرات سبيتفاير ودنكيرك والتي تعكس الحنين للماضي كما تم خنق الديمقراطية اليابانية من قبل الفصائل العسكرية وسيطرة الدولة السلطوية ولكن أوجه التشابه جديرة بالملاحظة.
لقد كان هناك عدد صغير نسبيا من المتعصبين العسكريين بدعم من الايديولوجيين الذين يتشبهون بالفاشية والضباط والذين كانوا في غالبيتهم من الرتب المتوسطة يريدون بالفعل الحرب مع الغرب. ان معظم السياسيين بما في ذلك الجنرالات والادميرالات كانوا يعلمون ان من الجنون استفزاز اشتباك مع قوة عسكرية وصناعية اقوى بكثير ولكنهم بطريقة أو بأخرى كانوا غير قادرين أو غير راغبين بإيقافه وحتى ان البعض كان يكرر كالببغاء الطرح المتطرف للمتعصبين بدون تصديقه وهذا يشبه الى حد ما محاولات ماي ارضاء انصار البريكست القاسي.
إن كبير الاستراتيجيين لهجوم بيرل هاربر الادميرال ياماموتو اسوروكو وهو رجل ذكي جدا درس في هارفارد ويعرف الولايات المتحدة الامريكية جيدا كان معارضا شرسا للحرب ومع أنه كأن يأمل ان تحصل معجزة وان تؤدي المفاوضات لمنع حصول حرب شاملة، إلا انه أدى واجبه وصمم الخطة. ان الامير كونو فوميمارو رئيس الوزراء والذي كان ابنه يدرس في جامعة برينستون اراد تجنب الحرب مع الولايات المتحدة الامريكية وكان يطلب من الامريكان المزيد من الاجتماعات مع ارسال اشارات متضاربة والامل بأن يتم تقديم التنازلات المستحيلة التي كان يطلبها المتشددون اليابانيون والذين لم يستطع مقاومتهم أو تردد في ذلك.
لقد كان هناك حديث كثير عن الالتزام بالمواعيد النهائية او تمديدها وكما هو الحال مع مفاوضات بريكست البريطانية مع الاتحاد الاوروبي فإنه لم يكن من الواضح بالنسبة للامريكان ما الذي كان يريده اليابانيون بالفعل وفي واقع الامر لم يكن هذا واضحا بالنسبة لليابانيين انفسهم. لقد كان الامل الاخير للرجال الذين عرفوا ان الكارثة تلوح في الافق ولكنهم رفضوا التصرف هو ان المزيد من المحادثات مع الامريكيين سوف تنقذهم وفي نهاية المطاف كان الامريكان قد تعبوا من الكلام وكنتيجة لذلك فقد ملايين البشر حياتهم وتدمرت اليابان برمتها تقريبا.
لقد كانت ردة الفعل المباشرة بين اليابانيين بعد ان عرفوا بهجوم بيرل هاربر هي الشعور بالارتياح فاخيرا كان هناك بعض الوضوح وأي شيء هو افضل من هذا التردد وأما وقد اصبحت اليابان لوحدها بحق فإن النسخة اليابانية من روح القوة البريطانية قد تنقذهم بطريقة او باخرى ومثل البريطانيين فإن اليابانيين لديهم شوق منحرف لانعزالية رائعة وقتال الامبرياليين الغربيين هو على اقل تقدير اكثر شرفا من اخضاع الصينيين من خلال المجازر.
ان من المحتمل ان بريكست بدون اتفاق سيكون له تأثير مماثل على البريطانيين والمرء لا يستطيع ان يلوم الناس على ان يصبحوا منزعجين جدا من المشاحنات في البرلمان والمحادثات التي لا تنتهي مع الاتحاد الاوروبي والتي لا يبدو انها تحقق اي شيء. ان قدرة الناس على احتمال كل هذا الغموض محدودة ومن الافضل ان يعرفوا الاسوأ.
إن جزء كبير من الصحافة البريطانية وان لم تكن مقيدة بالرقابة والتي خنقت الرأي العام الياباني في الثلاثينيات والاربعينيات من القرن الفائت هي بمثابة انعكاس للقومية المتطرفة وبشكل يشبه الصحافة اليابانية اثناء الحرب فعشرات السنين من الدعاية المعادية للاتحاد الاوروبي قد تكون قد اقنعت العديد من البريطانيين ان يتحملوا الحرمان والعوز والتي قد تتبع بريكست قاسيا. ان من المؤكد ان الكثير من الناس سيلقون باللوم بالنسبة لقلة البضائع والاسعار المرتفعة والصفوف الطويلة عند موانئ الدخول وخسارة البضائع على هؤلاء الاجانب (ان القوميين اليابانيين ما زالوا يلومون العناد والتصلب الامريكي بالنسبة لبيرل هاربر). ولكن بعد ان يتحقق كل ذلك فإن الشعور بالوهم والخداع سينتشر كما كان عليه الحال في اليابان بعد ان ذهبت نشوة بيرل هابر. بالطبع لن يتم قصف المدن البريطانية كما لن يتم غزو بريطانيا واحتلالها ويأمل المرء ألا يتعرض اي شخص للقتل ولكن نفوذ بريطانيا سيتراجع بشكل كبير وسينكمش اقتصادها وسيكون معظم الناس اسوأ حالا. ان من المحتمل ان الشخصيات الرئيسية وراء بريكست القاسي -من امثال بوريس جونسون ونايجل فاراج وجاكوب ريس-موغ- سيكونوا مرتاحين ولكن من غير المفيد ان نلوم هؤلاء فقط. ان الذين يجب ان يشعروا بالخجل فعلا هم اولئك الناس الذين كانوا يعرفون ما الذي سيحصل ولكنهم لم يفعلوا ما يكفي لمنع ذلك.

أستاذ الديمقراطية وحقوق الانسان في كلية بارد