ليلة السقوط والتفاصيل المروّعة لمأساة العُمانيين والعرب في زنجبار عام 1964م

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٧/مارس/٢٠١٩ ١٢:٢٠ م
ليلة السقوط والتفاصيل المروّعة لمأساة العُمانيين والعرب في زنجبار عام 1964م

إعداد : نصر البوسعيدي
سلسلة عمان عبر الزمان

«أنا المشير أوكيلو.. استيقظ أيها الرجل الأسود فليأخذ كل منكم سلاحا وذخيرة ويقاتل فلول الإمبريالية على هذه الجزيرة لا تتراجعوا عن قراركم أبدا إذا ما أردتم أن تكون هذه الجزيرة لكم».

بهذه الكلمات المدوية على كل العمانيين والعرب في زنجبار أندلس زمانها في القارة الأفريقية والتي خرجت بلسان الأوغندي جون أوكيلو عضو الحزب الأفروشيرازي استيقظ الأهالي على دوي طلق الرصاص والصرخات المرعبة التي اختلطت بظلام الليل الحالك في ليلة لم تكن متوقعة لدى الكثير من البسطاء سواء كان عمانيا أو عربيا. نعم كانت بدايات السقوط المحزن ووصمة عار أبدية على العالم أجمع الذي صمت عمدا وتخاذل عن كل المجازر التي حدثت في ساعات معدودة بتلك الجزيرة التي حكمها العمانيون فعليا من خلال السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي وأحفاده لأكثر من 131 سنة كانت فيها زنجبار درة البلدان تعيش كل مظاهر الوئام الحقيقي بين العرب وأهلها وبقية الأجناس من الشيرازيين والهنود. بعد استقلال زنجبار بحفل مهيب من الحماية البريطانية في عام 1963م، في عهد السلطان جمشيد بن عبدالله بن خليفة بن حارب بن ثويني بن السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي، كان أفراد حزب المعارضة الأفروشيرازي والمنشقين عن الحزب الوطني يثورون غضبا نتيجة خسارتهم أمام الجنس العربي العماني والمتمثل غالبيته في الحزب الوطني وحزب الشعب الذي بتاريخ 8 يوليو 1963م فاز بالانتخابات لتشكيل الحكومة بعد الاستقلال والحصول على الحكم الذاتي.

لم يكن حفل الاستقلال هذا إلا الوجه الآخر والخفي للمكيدة التي عملت عليها بريطانيا وإسرائيل التي تعارضت مصالحها الاقتصادية والسياسية لحظتها مع الحزب الوطني، لتدمير زنجبار والوجود العماني العربي فيها بسبب موقف ومناصرة العمانيين والعرب في زنجبار للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، وميلهم نحو توجهات الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، والذي في الأخير ترك العمانيين والعرب يغرقون في دمائهم المهدورة دون أي نجدة لأسباب منها وأهمها مثلما صرّح مستشاروه والمقرّبون منه ورطة الجيش المصري في حرب اليمن بالإضافة إلى سرعة الحدث الطارئ وخشية القيادة المصرية من التدخل وازدياد نطاق المذبحة والفتنة في أفريقيا بين العرب والأفارقة رغم استغاثة أحمد اللمكي سفير سلطنة زنجبار لدى القاهرة لنجدة العمانيين والعرب من المذبحة، ولكن لا مجيب للأسف بل إن جمال عبدالناصر كان من أوائل من اعترف بحكومة الغزو التنجانيقي برئاسة عبيد أماني كرومي الذي تم اغتياله فيما بعد على يد العماني حمود بن محمد بن حمود البرواني عام 1972م بمقر حزب الأفروشيرازي مع عدد من وزرائه في لحظة كانوا فيها يلعبون طاولة الزهر! وعودة للأحداث المؤلمة بتاريخ 11 من يناير الأسود عام 1964م..

سقط مركز الشرطة ومستودع الأسلحة بيد المعتدين على الحكومة الشرعية في تلك اللحظات المروّعة من الغوغائية وبدأت الاعتداءات الوحشية على العمانيين والعرب دون أي رادع، لتضطر الحكومة الشرعية للاستسلام مباشرة لإيقاف نزيف الدم، فقدّم رئيس الوزراء محمد حمد شامتي ومعه وزير خارجيته علي محسن البرواني ووزير المالية جمعة علاي الأبروي استقالتهم وسلّموا أنفسهم للقوات المهاجمة، وما وجدوا إلا الضرب المبرح والسجن والتعذيب مع استمرار كل أصناف الإجرام بحق المدنيين العزّل لتفوح رائحة الدم في كل مكان بدناءة المجرمين القادمين أكثرهم مع مرتزقتهم من خارج زنجبار ومعهم بعض العرب الخونة أصحاب الأفكار الشيوعية الماركسية وللأسف يترأسهم عبدالرحمن بابو وكأن المصائب على الأبرياء من أهلنا لا تأتي فرادى. كل من كان يلبس الدشداشة العمانية وبشرته بيضاء وملامح ديانته الإسلام ويضع في بيته صور السلاطين أو سواحيلي أفريقي له علاقة بالحكومة المنتخبة أو يحمل جوازا عمانيا أصبح معرضا للإبادة والتعذيب والسجن في ساعات الرعب التي مرّ بها كل هؤلاء الأبرياء مع عائلاتهم وأطفالهم.

أصبح الهجوم البربري على أشده اتجاه البسطاء من العمانيين والعرب في الأرياف من لا حول لهم ولا قوة، لتتم تصفيتهم بكل بشاعة كحرقهم هم وأطفالهم أحياء حتى الموت بعد أن تم اغتصاب النساء أمام عائلاتهن قبل إزهاق أرواحهم جميعا، كما أن عمليات اغتصاب النساء في أماكن عامة ببيمبا حدثت بكل دناءة أمام الآباء والأزواج والأبناء وهم مكبلون بالقيود إذلالا وقهرا قبل إعدام أغلبهم.
أما أفراد الحكومة المنتخبة فقد كان يُطلق عليهم رصاص الإعدام أمام أهلهم بعد تعذيبهم، بل إن بعضهم -رحمة الله عليهم- تم سحله في الشوارع بجرّه عبر المركبات بأقصى السرعات في الأماكن الوعرة ليصل الجثمان في الأخير من فرط التعذيب متهتك الجسد مثلما حدث في الشهيدين الأخوين محسن وسليمان ابني بدر البرواني وسليمان بن سلطان الريامي. كما كان الغوغائيون بقيادة المجرم جون أوكيلو واتباعه يستخدمون أسلوب إغراق الضحية في الآبار وهم معلقون من أقدامهم حتى الموت، ويحرقون ضحاياهم بمواد سريعة الاشتعال وقرب وفاته يطفئون النار لكي يظل حيا متألما أطول فترة حتى الموت أمام قلوبهم القاسية وحقدهم اللامعقول. ومن مظاهر القتل البربري الذي تم بحق العزل أمر الضحايا بحفر قبورهم بأنفسهم ليتم إطلاق النار عليهم مباشرة ودفنهم بيد أصحابهم الشهود، مثلما حدث مع الشهداء محمد بن سالم البرواني، ومحمد بن حمود البرواني، وعامر بن زاهر الإسماعيلي، وحمزة محمد- رحمهم الله أجمعين.

كما أن هناك حالات قتل مروّعة أخرى كالذي حدث للشهيد محمد سالم السكيتي وزوجته الحامل، فقد شقوا بطن زوجته وهي حية وأخرجوا جنينها من بطنها حتى فاضت روحها ألما وتعذيبا وكذلك الحال تجاه زوجها الذي تم قتله بوحشية مع التمثيل بجثتهما. وفي قرية بامبي قام الغوغائيون هناك بجمع النساء العمانيات والعربيات على السواء مع أطفالهن والموالين للحكومة المنتخبة من السكان الأصليين الزنجباريين، ورميهم في آبار جافة مليئة بالمواد المشتعلة ليتم حرقهم جميعا دون أي رحمة حتى الموت.
وكم من الألم يعتصر وأنا أكتب إليكم هنا ما حدث للشهيد الشيخ ناصر بن عيسى بن سالم الإسماعيلي والذي يمثل رحيله بهذه البشاعة الكثير من الضحايا غدرا وظلما، فحينما هاجمه الغزاة ومعهم جوزيف من تبنّاه الإسماعيلي كابنه وأحسن إليه منذ الصغر وقام بتربيته وتعليمه الإسلام، استل الشيخ بندقيته ودافع عن بيته وشرف عائلته بكل بسالة حتى غلبت الكثرة الشجاعة فأجهزوا عليه وهو ينظر بحسرة لمن أحسن إليه يغدر به مع المهاجمين، فقطعوا جسده ممثلين بجسده ليتخلصوا منه برميه في بئر منزله الذي أحرقوه بمن فيه ومنهم والدته التي استشهدت كذلك اختناقا. لتعكس كل هذه الأمثلة البشعة ما تعرّض له أهلنا من تعذيب وقتل وانتهاك عرض وتصفية عرقية رخيصة في ساعات معدودة أمام المجتمع الدولي الذي عجز عن حمايتهم وإدانة المجرمين من وصلوا للسلطة ومفاصل الدولة بعد كل هذه الدماء بكل أريحية ليصل أعداد ضحاياهم المقدّرة لأكثر من 17 ألف قتيل بين عماني وحضرمي وسواحيلي موال للعرب.

الجدير بالذكر أن حالات توثيق وتصوير مقاطع بعض تلك اللحظات المؤلمة من تاريخ زنجبار بذلك اليوم الدموي المشؤوم تم نشرها للعالم أجمع بعدسة المصور الإيطالي GualtieroJacopetti والتي توجد عبر منصات اليوتيوب بعنوان «مجزرة زنجبار عام 1964م» وبإمكان كل قارئ العودة إليها ليرى مثالا لحجم المأساة العظيمة والألم الذي وقع على أهلنا ومن تعاطف معهم، من صعدت أرواحهم لخالقها بعد تعذيبهم وقتلهم بكل وحشية فاقت خيال كل البشر، لتصبح هذه المأساة من حاول الكثير من المسؤولين عنها تغييبها وعدم البوح بتفاصيلها لدفن كل ما يُدين هؤلاء مع تلك المقابر الجماعية السرية المليئة بالنساء والأطفال والرجال في الأرياف خاصة التي كانت بعيدة نسبيا عن مركز الحكم في المدينة. هذا الحدث الكارثي المخزي في تاريخ البشرية أسقط حكم العمانيين من خلال آخر السلاطين وتحديدا السلطان جمشيد البوسعيدي الذي نجا هو وأبناؤه واستطاع ترك زنجبار للأبد متجها إلى بريطانيا ليقيم فيها حتى يومنا هذا. وأما بقية العمانيين والعرب من نجوا من تلك المذبحة فقد تم نهب أموالهم وتجريدهم من ممتلكاتهم وفصلهم من أعمالهم واعتقال أكثر من 21 ألفا تم تعذيبهم والزج بهم في السجون.

ماتت أغلب أشجار القرنفل في زنجبار مع مقتل ملاكها، وضاق الحال بأهلها وتم إجبار النساء من الأصل العربي على الزواج من قادة وجنود الغزو التنجانيقي ومعاقبة أي عائلة ترفض هذا التزاوج، كما تم التشديد على العمانيين لمنعهم من العودة إلى عُمان، وبعد ذلك تم تشديد الشروط لمن يريد أن يغادر بدفع مبالغ طائلة كانت تعجيزية للكثير من البسطاء، لتستمر معاناة من علق هناك وحُرم من الحصول على الجنسية العمانية رغم أصله العماني بعد مهلة الحكومة العمانية لرجوعهم في نهايات الثمانينيات من القرن المنصرم، لأتذكر هنا بكاء تلك العمانية المسنة التي تمسكت في قصر العجائب بطرف دشداشتي بعد نقاش قصير عن أخبارنا وأخبار بلادنا قائلة: «ليتني يا ولدي أستطيع الدخول لعُمان دون تأشيرة لأموت وأُدفن فيها».

المرجع: زنجبار شخصيات وأحداث (1828 - 1972م)، ناصر بن عبدالله الريامي، الطبعة الثالثة 2016م، بيت الغشام للصحافة والنشر والترجمة.