أوروبا تتاجر مع إيران

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٩/مارس/٢٠١٩ ١١:١٦ ص
أوروبا تتاجر مع إيران

باري آيكنجرين

كان انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من جانب واحد من اتفاق إيران النووي الذي أبرم في عام 2015- المعروف رسميا باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة»- سببا في وضع أوروبا في مأزق. فلا تزال حكومات أوروبا ملتزمة بالمشاركة الاقتصادية مع إيران كوسيلة لتشجيع الامتثال لخطة العمل الشاملة المشتركة، ولا يعني هذا توفير المساعدات الإنسانية فحسب، بل وأيضا سلع أخرى. غير أن الشركات التي تورد هذه الصادرات تجازف بتعريض نفسها لعقوبات من قِبَل إدارة ترامب.

وللسبب ذاته، تحجم البنوك الأوروبية عن توفير اليورو لتمويل التجارة مع إيران. أما البنوك الأميركية، فهي ممنوعة من توفير الدولارات. وفي مجموعها، تشكل هذه العقوبات حاجزا هائلا يحول دون المشاركة المطلوبة.

ردا على ذلك، أنشأت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، الدول الثلاث الموقعة على الاتفاق النووي، آلية لإدارة التجارة مع إيران بشكل مستقل عن الولايات المتحدة. وهذه الآلية، التي تعمل تحت مسمى «أداة دعم التبادل التجاري»، مسجلة في فرنسا وترفع تقاريرها إلى مجلس إشرافي يتألف من دبلوماسيين من الدول الثلاث.
ولكن على مدار الشهر الذي مر منذ إنشائها، لم تمول أداة دعم التبادل التجاري أي مشروع. ويديرها موظف واحد، وهو مدير كومرز بنك السابق بير فيشر. والمعلومات المتوفرة عن كيفية عمل هذه الأداة أقل من الارتباك المحيط بها.
لحسن الحظ، هناك سابقة لهذه المبادرة: اتحاد المدفوعات الأوروبي الذي عمل في الفترة من 1950 إلى 1958.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لم يكن من الممكن تحويل عملات أوروبا إلى دولارات أو صرفها بين بعضها بعضا، وذلك نظرا للصعوبات المالية التي كانت تبتلي القارة. نتيجة لهذا، لم يكن من الممكن استخدامها لتمويل أو تسوية المعاملات الدولية. ولم تتوفر أي بدائل آنذاك. وبشكل خاص، كانت الدول الأوروبية تمتلك القليل من الذهب وبضعة دولارات كانت تستخدمها لسداد المدفوعات الدولية.
ولهذا، كان لزاما على الدول الأوروبية لكي تتمكن من ممارسة التجارة أن تعتمد على اتفاقيات ثنائية. وكان عليها أن تعمل على موازنة تجارتها من دولة إلى أخرى، مما اختزل معاملاتها في المقايضة بشكل أساسي. ولم تكن هذه طريقة فعّالة لإعادة بناء التجارة والمدفوعات في القارة، إذا أردنا استخدام عبارة ملطفة.

بحلول عام 1950، بات من الواضح أن هذه الصعوبات تعيق تعافي الاقتصاد الأوروبي، مما دفع حكومات ثماني عشرة دولة أوروبية إلى إنشاء اتحاد المدفوعات الأوروبي. وقامت المنظمة الجديدة بتجميع العجز التجاري والفوائض لدى الدول الأعضاء، ومن خلال التعويض عن العجز الذي تكبدته أي دولة في مقابل مجموعة من الشركاء ضد الفوائض التي تديرها دول أخرى، تمكنت أوروبا من تسوية تجارتها على أساس متعدد الأطراف دون الحاجة إلى جعل عملاتها قابلة للتحويل.

وجه الشبه هنا مع أداة دعم التبادل التجاري واضح ومباشر. فسوف تتمكن إيران من تعويض عجزها مع مجموعة من الدول الأوروبية باستخدام فائضها مع مجموعة أخرى. وسوف يتسنى لها القيام بذلك دون اللجوء إلى الائتمان الدولاري ودون أن تضطر إلى تنفيذ المدفوعات عن طريق جمعية المعاملات المالية بين المصارف العالمية (سويفت)، والتي من خلالها يجري تنفيذ التسويات التقليدية عبر الحدود، والتي كانت مهددة على نحو مماثل بالعقوبات الأميركية.

بالإضافة إلى هذا، جرى منح اتحاد المدفوعات الأوروبي 600 مليون دولار لإقراض الأعضاء الذين يديرون عجزا تجاريا مؤقتا مع المجموعة ككل. وكان مجلس اتحاد المدفوعات الأوروبي قلقا على نحو مفهوم في ما يتصل بسداد هذه القروض. وعندما أظهرت ألمانيا الغربية في عام 1950 علامات تشير إلى استنفاد ائتمانها، أرسل المجلس فريقا مصغرا من الخبراء لتشخيص المشكلة. وأوصى الفريق برفع سعر فائدة البنك المركزي الألماني، وزيادة متطلبات الاحتياطي للبنوك التجارية، وتحديد سقف للائتمان. ومع تبني هذه التدابير النقدية التقييدية، عادت التجارة الألمانية إلى التوازن. وعاش اتحاد المدفوعات الأوروبي ليواصل القتال ليوم آخر.
مرة أخرى، كانت العواقب الضمنية المرتبطة بأداة دعم التبادل التجاري واضحة. فلا يوجد من الأسباب ما يجعلنا نتوقع أن تتوازن التجارة بين إيران وأوروبا بين عشية وضحاها. فلابد من وجود اعتمادات لتعويض الشركات المصدرة إلى إيران في الفترات عندما تشتري البلد من أوروبا أكثر مما تبيعها إياها. ولابد من توفر الإشراف السياسي وإجراء بعض التعديلات لضمان السداد الفوري لهذه الاعتمادات.
قبل عام 1950، كانت حكومة الولايات المتحدة تعارض بشدة إنشاء اتحاد المدفوعات الأوروبي، تمام كما تعارض الآن بقوة تفعيل أداة دعم التبادل التجاري. كان مكمن القلق إذن التمييز: فكان يُخشى أن تجد الدول الأوروبية أن الاستيراد بين بعضها بعضا أسهل، ولكنها تستمر على رفضها الاستيراد من أميركا بسبب افتقارها إلى الدولارات. بالإضافة إلى هذا، خشي المسؤولون الأميركيون أن تظهر نسخ أخرى من اتحاد المدفوعات الأوروبي فتقوض وظائف صندوق النقد الدولي المنشأ حديثا آنذاك.
ولكن عند هذه المرحلة، يتباعد السردان. فمع قدوم الحرب الباردة، أدركت إدارة الرئيس الأميركي هاري ترومان والكونجرس الأميركي مدى إلحاح الحاجة إلى إعادة بناء أوروبا. ولتحقيق هذه الغاية، أذنت الإدارة الأميركية والكونجرس باستخدام اتحاد المدفوعات الأوروبي لمبلغ 350 مليون دولار من أموال خطة مارشال.
هذه المرة، لا تعتزم الولايات المتحدة مساعدة أوروبا في مشروعها للتسويات التجارية، سواء كان ذلك في ظل حرب باردة جديدة أو لم يكن. فعلى النقيض من الحال في عام 1950، أصبحت الحكومات الأوروبية اليوم قادرة على تشغيل هذا النوع من الآليات بمفردها. فهي تملك المال، وهي قادرة على إدارة المقاصة. ويوفر التاريخ الإرشادات اللازمة حول كيفية إنجاز هذه المهمة.

أستاذ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي