شمعة 75 عاما

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢١/مارس/٢٠١٩ ٠٣:٣٢ ص
شمعة 75 عاما

أرمينيو فراجا

وضع مؤتمر بريتون وودز لعام 1944 إطار عمل متعدد الأطراف، من أجل التعاون الدولي بشأن استقرار الاقتصاد الكلي و التجارة والتنمية. واستمر الإطار- بصرف النظر عن التشويش والتعديلات اللذين لا هروب منهما- لمدة 75 عاما. وينبغي علينا الاحتفال بهذه الانجازات ومدحها. ومع أن نظام الحوكمة الاقتصادية العالمية هذا، يواجه ضغوطات، ستستمر مؤسسات بريتون وودز، بالإضافة إلى منتديات إقليمية ودولية أسست في الآونة الأخيرة، في القيام بدور هادف طويل الأمد. وعلى المستوى الكلي، كان اتفاق بريتون وودز مبنيا على أسعار صرف ثابتة لكن قابلة للتكيف، واعتمد على صندوق النقد الدولي الذي أسس مؤخرا من أجل مراقبة ثبات السياسات القومية، وتقديم الدعم المالي للدول التي تواجه صدمات خارجية. وقدم البنك العالمي الجديد ( الذي كان يسمى بالبنك الدولي لإعادة البناء والتنمية) الدعم والنصائح بشأن مشاريع استثمارات التنمية وإعادة البناء الطويلة الأمد. وقدمت مؤسسة أخرى للفترة ما بعد الحرب- الاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة- التي توسعت، وتمت إعادة تأسيسها لتصبح منظمة التجارة العالمية في عام 1995- إطار عمل لتعزيز التجارة الحرة، مبني على القوانين المتعددة الأطراف وميكانيزمات النزاع.

وأفسحت هذه الترتيبات العالمية مجالا كبيرا لمختلف السياسات القومية والإقليمية، ما دامت السياسات لم تحقق ميزان مدفوعات دوري وأزمات التضخم. إذ تمكنت الدول الناجحة من جمع المزيد من رؤوس الأموال، خاصة البشري منه، وبناء مؤسسات جعلت أرباحها تدوم أكثر. وعلى العديد من المستويات، كانت الاستراتيجيات القومية التي أعطت ثمارها رهانات تقارب- أي أنها كانت تهدف إلى تضييق فوارق الإنتاج بين الاقتصادات الأكثر تقدما.

وبموازاة مع التقدم الاقتصادي، رأى العديد من المعلقين علامات واضحة للاتجاه السياسي نحو أنظمة ديمقراطية أكثر ليبيرالية، التي أدت إلى سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي. ولخص العالم السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما هذه الرواية بنظريته المشهورة «نهاية التاريخ.»
ومه مرور الوقت، واجه بريتون وودز العديد من التحديات والأزمات. وكان الانتقال من تعادل سعر الصرف الواضح إلى نظام العملات الأكثر مرونة في بداية السبعينيات من القرن العشرين، نهاية لإطار العمل النقدي الأصلي للفترة ما بعد الحرب، لكن استهداف التضخم الرسمي وغير الرسمي أعاد إرساء النظام في وقت لاحق.
صحيح، عانت العديد من الدول المتقدمة من نسب تضخم ومن مشاكل توازن المدفوعات، تجاوزت حدتها تلك التي شهدتها الاقتصادات الأكثر نضجا، لكن الجهود من أجل إعادة هيكلة ديونها الدولية والتعامل مع ارتفاع مستوى التضخم أو التضخم المفرط كانت ناجحة إلى حد ما. وتأقلم البنك العالمي وبنوك التنمية الإقليمية مع عالم في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى رأس المال، عن طريق الاضطلاع بدور إعلامي وتحفيزي أكثر في مجالات مثل البنية الأساسية وبناء المؤسسات. وبصرف النظر عن التقدم البطيء أو المنعدم على مستوى منظمة التجارة العالمية، وضعت العديد من الترتيبات الاستثمارية والتجارية المتعددة الأطراف والإقليمية.
ومع ذلك، أصبح التنسيق الاقتصادي العالمي، اليوم، أكثر صعوبة، إذا لم نقل أنه أصبح مستحيلا كليا في بعض المناطق. ولم يشهد قطاع التجارة، بصرف النظر عن تضاعف الترتيبات الإقليمية، أي تقدم متعدد الأطراف وذي أهمية منذ جولة أوروغواي في عام 1944. وفيما يخص تغير المناخ والبيئة، حقيقة ملحة حديثة ووجودية- كانت نتائج المفاوضات الأخيرة محدودة. ولا يزال هناك نقص في الخدمات العامة في المجالات الرئيسية مثل الأمن والهجرة والصحة العالمية. وتواصل الديون ارتفاعها في العديد من الدول، لتتجاوز في غالب الأحيان المستويات التي وصلت إليها عندما كانت تقترب من الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وحتى بعض الإنجازات التجارية الإقليمية التي شهدها ربع القرن الأخير هشة اليوم، مثل السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي (إذا حدث البريكسيت)، واتفاق التجارة الحرة لشمال أمريكا التي تم تعويضه في الآونة الأخيرة، و السوق المشتركة الجنوبية، والشراكة العابرة للأطلسي.
وبموازاة هذه التحديات الاقتصادية، هناك قلق واسع بشأن عدم قدرة معظم الدول على التصدي للانعكاسات الاجتماعية السلبية للنموذج التنموي العالمي الحالي.
وفي هذا السياق، ليس مفاجئا إن عوضت المنتديات الجديدة مثل مجموعة 7، ومجموعة الـ20، ولجنة الاستقرار المالي إلى حد ما مؤسسات بريتون وودز الرسمية. وهذا لأن القرارات التي تتخذ في المؤسسات الدولية غالبا ما تحكمها قوة القانون، وتفضل العديد من الدول الاجتماع في منتديات تصدر تصريحات معظمها لا يحمل طابها إلزاميا (نقطة غالبا ما أشار إليها الراحل طوماسو بادوا شيوبا، عضو سابق في لجنة البنك المركزي الأوروبي ووزير المالية الإيطالي سابقا).
ومع أن هذا الترتيب المتطور ليس قويا مثل تصميم بريتون وودز الأصلي، قد يشير إلى أن النظام العالمي للحوكمة الاقتصادية مرن ويمكنه التأقلم مع الظروف المتغيرة. لكن بالنسبة لدول أو مجموعات أكبر مساحة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والصين واليابان، نظام بريتون وودز الرسمي لم يعد جوهريا لاستقرار الاقتصاد الكلي والتجارة والقطاع المالي.
إذا ماذا يمكننا أن نقول بشأن بريتون وودز في عالم يشهد مرحلة انتقالية؟
أولا، نظرا لتراجع سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية وضعف رغبتها في أن تكون الرائدة على المستوى الاقتصادي والمالي في العالم، من المحتمل أن يرتفع عدم الاستقرار المنهجي. وكما حذر المؤرخ الأمريكي تشارلز كيندربورغر، يحدث هذا بالتحديد في المراحل الانتقالية عندما تغيب هيمنة عالمية. وتبدو بعض علامات ما حذر منه تشارلز واضحة في التجارة والتوترات الإقليمية وتزايد الرفع المالي، وتصاعد القومية. ثانيا، يجب أن يُنظر إلى «بريتون وودز» الآن على أنه يضم ليس فقط المؤسسات الأصلية، بل أيضا منتديات أسست في الآونة الأخيرة وترتيبات جهوية. وتشكل ميكانيزمات التعاون هذه حلا عمليا حقيقيا للتحديات الراهنة.
ثالثا، ينبغي علينا التساؤل حول ما إذا ستواصل الدول المتقدمة محاولتها التقارب مع اقتصادات أكثر تقدما، وما إذا كانت ممكنا لمؤسسات بريتون وودز الواسعة النطاق، أن تظل عنصرا مهما لخدمة التقدم العالمي. وجوابي هو نعم على كلا السؤالين، إذا كان أحدهما حول المستقبل. وستحاول الدول النامية منافسة النجاحات السابقة للنمور الأسيوية وأوروبا الشرقية. وستفضل الدول الحوار والتعاون بدل الإخفاق الذي تعرضت له دول مثل فينزويلا وكوريا الشمالية اللتين اختارتا الخروج عن النظام العالمي.
وأخيرا، قد تتعرض هذه الرؤيا المتطلعة للتهديد بسبب المرحلة الانتقالية نحو أنظمة سياسية شعبوية وغير ليبرالية. لكن التاريخ يظهر أن السياسات الليبرالية والسياسات الاقتصادية حققت بدون شك المزيد من التقدم والسلم اكثر من أي نظام آخر.
قبل خمسة وسبعين عاما، اجتمع صناع القرارات الاقتصادية في بريتون وودز من أجل بناء نظام مالي لعالم ما بعد الحرب. واليوم، لازال بإمكان خلفائهم الاعتماد على بعض من هذه الانجازات في تصميم نظام حوكمة اقتصادية للقرن الواحد والعشرين.

المحافظ السابق للبنك المركزي البرازيلي