الترجمة ما لها وما عليها

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٦/أبريل/٢٠١٩ ١٠:٥٥ ص
الترجمة ما لها وما عليها

علي بن راشد المطاعني
الترجمة من العلوم الإنسانية المهمة التي تنقل معارف الأمم والشعوب وتعكس تحضّر الدول ورُقيها في ضروب العلوم والآداب والثقافة، وهي كعلم قائم يعد شديد التأثير وشديد الخطر في آن معا، وذلك يفرض علينا أن نوليها الاهتمام الذي تستحقه على كافة المستويات فهي تحتاج منا للمزيد من التنظيم الذي يضبط إيقاعها، لنخلص لمعايير دقيقة تتناسب مع خطورة هذا العلم، ولنتوصل بعدها لضوابط ومعايير واضحة ودقيقة نحدد بموجبها من هو الذي يستحق أن نطلق عليه صفة (مترجم) وبجميع ما تعنيه هذه الكلمة من معان ودلالات، ذلك يفضي لضرورة سن القوانين والتشريعات في سبيل تقنين هذه المهنة الخطرة، وإذا كنا قد وصفناها بالخطرة فلأن المترجم الضعيف من الممكن أن يُحدث (كارثة) عندما يعكس معنى ما، أو أن يؤوّل على هواه فكرة ما بعيدة عن السياق المكتوب، وبناء عليه لا بد من أن توضع في إطارها العلمي ككل المهن ولا بد من ترخيص لها لتمارس كالمحاماة والهندسة والطب الخ..
ورغم الجهود المبذولة من قبل الجهات المختصة في البلاد لتنظيم هذه المهنة وإصدار التراخيص اللازمة لممارستها، إلا أن ثمة ممارسات خاطئة ما برحت تقع كغيرها من المهن، ليختلط بعدها الحابل بالنابل، ولنخلص لترجمات لا علاقة لها بالنص الأصلي، وتلك هي الطامة عينها. فنلاحظ الأخطاء الجسيمة في اللوحات الإرشادية واللوحات التجارية والعقود والاتفاقيات والتقارير الطبية والمراسلات الإدارية وغيرها من أعمال الترجمة التحريرية حيث يخفق المترجم في إيصال المعنى الصحيح. وكذلك الترجمة الفورية في المحاكم والاجتماعات والندوات والمؤتمرات حيث تتم الاستعانة بمترجمين لا يملكون الأساسيات الصحيحة للترجمة الفورية فيقلب المعنى أو يترك ما لا يفهمه أو لا يستوعب كل ما قيل ولا يتطرق إليه فيصبح المتحدث في واد والمترجم في واد آخر.
وحتى الجهات الحكومية المختصة فإنها لا تُعير اهتماما كبيرا للأمر وقد تتم الاستعانة بمكاتب ترجمة غير مرخصة في ‏المؤتمرات والفعاليات على اختلافها بدون التأكد من قانونية تلك المكاتب ومدى كفاءة المترجمين العاملين لديها وفقا للشهادات العلمية والخبرات التي تؤهلهم للاضطلاع بهذه المهمة الجلل وإنما تركيزهم على الأقل سعرا مهما كانت الجودة والكفاءة.
إن إدارة منظومة الترجمة يتعيّن أن تغدو بأعلى المستويات الممكنة والمتاحة اتساقا مع أهميتها ودورها في إثراء الساحة الثقافية والاقتصادية والعلمية والبحثية، ولا يمكن أن نركن لترجمات مستمدة من فضاءات الإنترنت وعبر الاستعانة بـ «مستر جوجل» لنزعم بأن هذه الترجمات الآلية هي المعبّرة بأمانة عن النص الأصلي؛ فالترجمة الآلية ورغم الجهود العملية المبذولة للارتقاء بها ستبقى تفتقر للحس والحدس والمشاعر الإنسانية والتي تتجلى فيها قدرة الله عز وجل، فهناك كلمات لا يمكن تفسيرها حرفيا، هنا تفشل الآلة في الوصول للنقطة البعيدة الغائرة في النفس البشرية وهذا متفق عليه أمميا فلا يمكن للآلة أن تنقل الأحاسيس في النص الأصلي ويفقد بذلك روح النص.
وبعد إصدار المرسوم السلطاني 18/‏2003 عمد عدد من المترجمين العمانيين إلى فتح مكاتب ترجمة راقية وبجودة عالية إلا أنها تواجه مشاكل بعدم تنظيم الترجمة في الواقع. فهناك التجارة المستترة ومكاتب مملوكة للوافد والعماني ما هو مالك في الأوراق الرسمية وغير متفرغ لمكتبه. كما أن هناك وافدين يعملون بالباطن ويقدمون عروضا بأقل الأسعار ولا تهمهم الجودة وليست لديهم مكاتب حقيقية أو يطلبون فواتير من مكاتب معتمدة لإنهاء الإجراءات الإدارية في المؤسسة المعنية. وهذا أدّى إلى إغلاق مكاتب ترجمة واعدة وعزوف المترجمين عن فتح مكاتب ترجمة تتمتع بالمهنية والجودة والإبداع.
لقد شد انتباهي إعلان لأحد الشباب العُمانيين عن جائزة للترجمة للمترجمين العُمانيين، ملقيا وبنحو ذكي الحجر في المياه الآسنة والراكدة في هذا البحيرة، إذ كان من الأفضل والأروع أن تقدم هذه الجائزة من قبل جهات مختصة بالعلوم والثقافة والآداب ‏مثلما يحدث في كثير من دول العالم عامة وفي دول الخليج العربي، عندها يمكننا القول إن الضوء قد سُلّط ساطعا على المترجمين المواطنين الذين لديهم إسهامات طيبة ومحمودة ومشكورة ويحتاجون فقط للأخذ بأيديهم إلى جادة الإبداع منقطع النظير. وهكذا دائما نجد الاهتمام يأتي من الأشخاص والمهتمين في شأن الترجمة وذلك بتشكيل مجموعات في الواتساب لمناقشة تحديات ومشاكل الترجمة ومحاولات شخصية لإنشاء جمعية للمترجمين العمانيين. ولا تجد هذه المحاولات التشجيع والدعم من قبل المؤسسات المعنية.
نأمل أن يُنظّم سوق الترجمة في البلاد على نحو يتناسب مع أهميتها كعلم أولا وكتجارة ثانيا، موقنين بحقيقة أن أوروبا المتحضرة اليوم ما كانت لتصل لما وصلت إليه لولا دقة الترجمة التي نقلت إليهم العلوم والمعارف العربية التي أبدعها العلماء العرب قديما فبنوا عليها إمبراطوريات نهضتهم العلمية الحديثة؛ فالترجمة إذن علم تنهض على أكتافه كل حضارات الأمم وليست بالتالي مهنة من لا مهنة له.