"الاصلاح والانفتاح" الصيني.. نموذج حير وعلم العالم

مزاج الاثنين ٢٠/مايو/٢٠١٩ ٠٥:٣٢ ص
"الاصلاح والانفتاح" الصيني.. نموذج حير وعلم العالم

مسقط- بكين - خالد عرابي

تحتفل جمهورية الصين الشعبية خلال العام الجاري وتحديدا في أكتوبر المقبل بالذكرى السبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، كما وكانت الصين قد احتفلت في العام الماضي بالذكرى الأربعين «للاصلاح والانفتاح»، وهو المصطلح الذي يصف السياسات التي أطلقها الزعيم الصيني السابق دينج شياو بينغ في يسمبر1978، والتي شكلت عناصر اقتصاد السوق في الصين مع الاحتفاظ بحكم الحزب الواحد..

وفي مؤتمر للاحتفال بتلك الذكرى تعهد الرئيس الصيني الحالي شي جين بينج بأن تكون بلاده أكثر انفتاحا تجاه دول العالم، وأشاد بالسياسات الاقتصادية التاريخية التي حولت الصين من إحدى أفقر دول العالم إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي. وأكد بينج في وقتها على تعهداته بمزيد من الانفتاح الاقتصادي، حيث قال: "لقد قمنا بانتقال تاريخي من اقتصاد مغلق وشبه مغلق إلى اقتصاد منفتح بصورة كاملة." كما قال بينج في المؤتمر «الرفيق دينج أشار إلى أن الفقر ليس الاشتراكية» واصفا "الاصلاح والانفتاح" بالصفة الواضحة والمهمة الأكثر تميزا في الصين العصرية." وقد اشتهر دينج شياو بينج بسعيه لانفتاح الصين على الاستثمارات الأجنبية وإخراج البلاد من دائرة الفقر المدقع الذي أحدثته السياسات السابقة للرئيس ماو تسي تونج.

واليوم وبمرور 41 عاما على تطبيق "الاصلاح والانفتاح"، وهي السياسة التي انتهجها وطبقها الحزب الشيوعي الصيني الذي قاد البلاد إلى تجربة حديثة من النهضة والحضارة والتطور، لتكون نموذجا وواحدة من السياسات المعروفة بل والرائدة في العالم، وفي الوقت الذي مر فيه العالم وخلال الحقبة والعقود الماضية بتحولات كبرى ما بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي، وجدنا أن تجربة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية قد استطاعت أن تنجح وبكل اقتدار لتكون رائدة في هذا الاصلاح والانفتاح ولتقود دولة تملك ربع سكان العالم تقريبا "1.4 مليار نسمة" إلى النهضة والنجاح.

شكوى من السكان

من المعروف أن هناك شكوى مستمرة من كثرة عدد السكان في كثير من الدول التي سكانها بالملايين فقط، بينما في الصين الذي إذا تناول كل فرد من أفراده تفاحة يوميا فسيكون إجمالي الاستهلاك اليومي مليار و400 مليون تفاحة، وعلى اعتبار أن ثلاثة تفاحات تقريبا يمثلون الكيلو جرام فهذا يعني أنها تحتاج إلى حوالي 470 مليون كيلو، أي حوالي 470 ألف طن من التفاح يوميا وعليها فقس في المأكل والمشرب والملبس، ومتطلبات الحياة اليومية الأخرى، ومع هذا، فإن الدولة الصينية بقيادة الحزب الشيوعي الصيني لم تتمكن من سد متطلبات الحياة اليومية لشعبها فحسب، بل تمكنت من أن تجعل من تجربة بلدها التنموية تجربة رائدة تمكنت أن تقودها إلى مصاف الدول المتقدمة لتصبح ثاني قوة اقتصادية عالمية، بل والمرشحة وبقوة لتكون قريبا أول قوة اقتصادية عالمية، وليس هذا فحسب بل إن الصين أصبحت الرائدة والمتطورة عالميا في التكنولوجيا والعلوم والاقتصاد والثقافة والفنون والزراعة والصناعة وفي أغلب المجالات، وحتى على مستوى حياة الفرد أصبح المواطن الصيني يعيش حياة من المستوى الراقي والمحترم من العيش الكريم ونسبة عالية جدا تعيش الرفاه ذاته، وقد لمست ذلك في شوراع العاصمة بكين بل وفي المدن البعيدة التي تبعد ألاف الكيلو مترات بعيدا عن بكين من المقاطعات التي زرتها مثل سانشي "شيان" وشنغهاي وغيرها.. وفي الشارع تجد المواطنين يعيشون مستوى عالي من العيش فيرتدون أرقي الثياب ويركبون أفخم السيارات -وبهذه المناسبة كل ذلك ليس مقتصر على الماركات الصينينة فحسب، حتى وإن كانت قد أصبحت رائدة عالميا ويكفي أن نضرب المثل بهواوي نموذجا- ولكن كل الماركات العالمية وفي كافة القطاعات موجودة في الشارع الصيني..

أما إذا أدرنا أن نركز ونوجز أكثر لنتحدث عن سياسة الاصلاح والانفتاح التي انتهجها الحزب الشيوعي الصيني وقادت البلاد إلى هذا المستوى من النهضة والتقدم، فمن الصعب أن نختصرها في مقالة أو صفحة ولا حتى صفحات وإنما تحتاج إلى كتب، ولكن هنا سأحاول أن أتحدث عن نماذج بسيطة لتدلل على ما أقول.. وهنا أروى قصتان أو نموذجان مختلفان، الأول يتحدث عن الاصلاح والثاني يتحدث عن الانفتاح ومع فارق الأول يتحدث عن فرد أو حالة شخصية، بينما النموذج الثاني فيتحدث عن منظومة أو نظام.

الاصلاح

حينما تبنت الصين سياسة الاصلاح كان القصد منها هو الاصلاح بمعنى الكلمة من حيث الاصلاح الهيكلي والحقيقي في داخل منظومة الدولة الصينية، وأتباع كل سبل التنمية والتطور وتبني الشفافية والعدالة الاجتماعية ومكافحة الظلم والفساد وغيرها، وتبني كل ما من شأنه أن ينعكس بالعيش الكريم والرفاه على حياة المواطن، ولذا فيمكننا أن نقول أن الصين بالفعل نجحت في ذلك، ولاحظنا كيف نمت وكيف تقدمت اقتصاديا، وكيف انعكس ذلك على حياة شعبها ولعل واحد من أبرز ما أدى إلى ذلك أن الجميع يعمل في إطار منظومة واحدة من أجل التنمية، فالدولة تنمي والأفراد ينمون والغني يأخذ بيد الفقير وينميه، والمؤسسة الغنية والقوية تأخذ بيد المؤسسة الغير مقتدرة ماليا وتنميها، ومن ذلك مثلا أن المقاطعة الغنية والقوية اقتصادية تساهم وتدعم في تنمية المقاطعة ذات الدخل المحدود وكذلك المدينة والقرية تقوم بذلك تجاه مثيلاتها بل وحتى الأفراد أنفسهم يفعلون ذلك، ولعل واحدة من القصص الفردية الاحقيقية والجميلة التي أطلعت عليها هى تجربة قرية "جوجاوان" التابعة لمدينة شونج لوي التي تبعد عن مقاطعة شيان التابعة لها 80 كلم ولكن تحتاج للوصول إليها حوالي ساعة ونصف وذلك بسبب طبيعتها الجبلية وأن الطريق إليه صعب بل وجزء منه عبارة عن انفاق محفورة وسط الجبل، فتلك القرية التي تضم نحو 468 أسرة بإجمالي 1800 نسمة بحسب بينج بان، الذي قال: بأن القرية وأهلها كانوا يعيشون في فقر مدقع ولكن بسبب سياسة الاصلاح ذهبت الحكومة وقري مجاورة ورأوا أن أفضل محور لتنميتها هو السياحة بسبب طبيعتها الجبلية الفريدة وبالفعل تم العمل على ذلك وقام رجال الأعمال "بيني بينج"، صاحب شركة Facing China للسياحة وهو من ابناء القرية بطرح مبادرة تعتمد على تحويل بعض أراضي السكان الراغبين في ذلك إلى مطاعم وفنادق صغيرة بتمويل منه ومن بنوك تنموية بدون فائدة مقابل أن يدفعوا أقساط شهرية من أرباحهاـ كما تم افتتاح مراكز لبيع المنتجات الحرفية واليدوية التي يمكن أن يقوم بصناعتها أهالي القرية، وبالفعل حدثت طفرة تنموية كبيرة بها وخلال الفترة من العام 2015 إلى 2018 ارتفع دخل الفرد بنسبة 20% بعد أن كان ما بين 2012 وحتى 2015 بنسبة 3% ققط بل وتم تخطي معظم أهلها لحد الفقر ويكفي أن نضرب نموذج بحالة فردية لتلك السيدة الأربعينية شن داو فونج التي كانت معدمة وعاملة بأحد المطاعم لا يتجاوز دخلها الشهري 900 يوان حوالي" 130 دولار" وهو دخل محدود ولكنها بعد أن سمعت بتجربة رجل الأعمال نفسه في دعم الأسر الفقيرة بادرت بإعطاء قطعة أرض لها وبنى لها فندق صغير عليها كلفه 2 مليون يوان بتمويل منه ومن بعض البنوك بدون فوائد، وهي تؤجر الغرفة في الفندق يوميا بـ 150 يوان ولديها متوسط إشغالات فندقية تصل إلى 80% طوال العام وإن كانت تتأثر بحسب الموسم، وأصبح دخلها الشهري من الفندق حوالي 10 ألاف يوان شهريا بعد سداد قسط القرض أي تضاعف دخلها إلى 11 ضعفا.

الانفتاح

وكما تحدثنا عن نموذجا للاصلاح نتكلم على الانفتاح ونؤكد أن الصين وبعد أن ركزت ولفترة طويلة على الاهتمام بأمورها الداخلية وبعد أن حققت نجاحا حقيقيا ومنقطع النظير في الاصلاح ووصلت لمبتغاها وهو القوة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وأمنيا وفي كافة المجالات، رأت القيادة الصينية أن الدول القوية عليها دور مهم نحو الأخر ودول العالم الأخرى، فكما جعلت داخليا القرى والمدن والمقطعات تساهم في تنمية مثيلاتها الأخرى في الصين، رأت أيضا أن الدول الكبرى أيضا يمكنها بل وعليها أن تقوم بذلك ولذا فعلى الصين أن تمد يد العون والتنمية لدول العالم التي تحتاج إلى مثل هذه الشراكات والتعاون، وجاء دور الانفتاح وهو التوجه للأخر وللعالم الخارجي أيضا لينعكس على حياة الشعب الصيني أولا ، وثانيا لمزيد من التعاون ومد يد العون والشراكة من أجل الكسب والعيش المشترك ولكن أهم ما ميز كل ذلك هو الحكمة الصينية الخالصة التي تتبنى "النفع للجميع" مبدءا. وهنا ينبغي أن نشير إلى أن ذلك لم يأت متأخرا ولكن منذ فترة بعيدة ولكن كان مدروسا ومتدرجا، وخير دليل على ذلك هو دخول الصين إلى إفريقيا مبكرا، وما ميز تعاونها وعطاءها هناك أنه كان من أجل تعاون وشراكة حقيقية ولذا فلم يكن مشروطا أو مكبل بإملاءات سياسية واقتصادية وعسكرية كما يفعل الأخرون "الغربيون"..

وها هي تأتي مبادرة "الحزام والطريق" العظيمة التي تطرحها الصين وتقوم على فكرة احياء طريق التجارة العالمي القديم "طريق الحرير" ولكن في شكل مبادرة حديثة تقوم على ربط العالم من خلال الطريق البحري والبري والجوي بل ولا تقتصر المبادرة على طول طريق الحرير القديم، بل يكون المجال مفتوحا واليد ممدودة لجميع دول العالم ولكن من يريد التشارك وأن يفيد ويستفيد ويؤمن بالنفع للجميع".

هذا الانفتاح الذي تتبناه الصين لا يقتصر على انفتاحها على العالم فقط بل يتضمن انفتاح العالم عليها وهو أن الصين فتحت الأبواب للجميع من أنحاء العالم للزيارة والسياحة بل والعمل فلنا أن نتخيل ووفقا لإحدى الأساتذة الجامعيات اللاتي تعملن في الصين والتي اخبرتني -والعهدة على الراوي- أنه يعمل في الصين قرابة مليون وافد في العديد من القطاعات منها التعليم والتعليم العالي والإعلام وتعليم اللغات الأجنبية ووفقا لطرحها أن ذلك ليس من قبل حاجة الصين إلى موظفين أو عمالة أجنبية من الخارج ولكن من قبيل الانفتاح والتبادل الثقافي وأن يكون الشعب الصيني متأثر ومؤثر في الأخرين مع التأكيد على أن ذلك لا يطبق عشوائيا بل هناك فرز في اختيار الأفضل والمرتبط بمنظومة معتمدة من القيم المتبعة والتميز والبعد عن الغث ورفضه والاعتماد الأكبر في ذلك على تأسيس المواطن الصيني نفسه ليكون هو القادر على هذا الفرز وليتبين الغث من الثمين.

أيضا يأتي كواحد من أدوات هذا الانفتاح الكبير والمدروس هو استخدام وسائل الإعلام لتقوم بدورها في هذا الانفتاح سواء دورها الداخلي والخارجي ولذا فمن قبيل الانفتاح أيضا تم مؤخرا إعادة هيكلة وسائل الإعلام الصينية رغم ضخامتها ومنها مجموعة سي سي تي في التي أصبحت سي جي تي إن و تضم قنوات سي سي تي في بالعديد من لغات العالم لتصبح أكبر مجموعة إعلامية في العالم و يدعمها كتلفزيون الصين المركزي وووكالة الأنباء الصينية (شينخوا) وإذاعة الصين الدولية و صحيفة الشعب اليومية وغيرها العديد من وسائل الإعلام الحديثة التي أطلقتها مؤخرا.