مسقط .. مقبرة جيوش الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٤/يوليو/٢٠١٩ ١٢:٤٦ م
مسقط .. مقبرة جيوش الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان

أصيب الحجاج بن يوسف الثقفي والي الأمويين في العراق بالصدمة والغضب وهو يتلقى خبر كارثة جيشه المعتدي وما حل به في طرقات مسقط!

لم يكن أهل عُمان يوما يرضخون لأحد خاصة إن كان الأمر يتعلق بالمبادئ التي يؤمنون بها، ومنذ الأيام الأولى لرسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وهو يدعو الأمة للإسلام كأعظم مصلح في تاريخ البشر ومخلص العالم من الوثنية التي كانت بكل همجية تسيطر على معظم شبه الجزيرة العربية وما حولها، كانت عُمان كغيرها فيها من يعبد الأصنام والتي ما لبثت إلا واختـــــفت نتيجة اسلامهم بسلام وإقتناع بعد حوارات ونقاشات مطولة بين عمرو بن العاص مبعوث النبي وملوك عُمان عبد وجيفر أبناء الجلندى والذين أعلنوا اسلامهم وقاموا بدعوة أهل عُمان جميعهم لهذا الدين القويم الذي سبقهم فيه الصحابي العماني مازن بن غضوبة.

لقد احسن أهل عُمان إسلامهم وقد أحبهم نبي الله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وأثنى عليهم بشهادة كبار الصحابة الذين كانوا بعد وفاته خير من يقدر العمانيين كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، ولذا لن نستغرب ونحن نرى أن العمانيين كانوا في مقدمة الجيوش الفاتحة في نواحي العراق وبلاد فارس وأواسط آسيا كالقائد العماني أبو صفرة وابنه المهلب وآل المهلب بشكل عام.

لقد تمسكت عُمان بالمبادئ الحقيقية التي يؤمن بها أهلها في قضية الحكم، فقد اتبعوا نهج الخلفاء الراشدين في انتخاب الخليفة من قبل كبار الصحابة، حتى وقعت الفتنة التي أدت إلى انقسام الأمة حتى يومنا هذا حينما تم اغتيال الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأعقب ذلك الخلاف والحرب بين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وبين معاوية بن أبي سفيان الذي استولى على الحكم بعد مكيدة الخاتم والصلح والمصاحف التي قادها صاحبه عمرو بن العاص ليؤسس بعد ذلك خلافة قوية عرفت في التاريخ بالدولة الأموية التي تحول فيها الحكم من الانتخاب إلى الوراثة.

وبالطبع كان أهل عُمان ضد هذا التغير السياسي الذي طرأ في الأمة الإسلامية، وكانوا منذ البداية من الداعمين لخلافة علي بن أبي طالب قبل حدوث كل هذه الإشكاليات بنظام الحكم وخاصة بعدما تم اغتيال علي كرم الله وجهه في العراق غدرا.

وعطفا على ما حدث فمن الطبيعي أن تصبح عُمان هدف الخلافة الأموية التي ترى في موقعها الاستراتيجي رافدا حقيقيا لاقتصاد الخلافة بما أنها حلقة الوصل الحقيقي بين الهند وأفريقيا في عالم التجارة البحرية، فكان الصراع على ذلك بين كر وفر اقصد بين سيطرة الامويين الجزئية لعمان وبين عدم مقدرتهم على ذلك في الوقت الذي كانت فيه عُمان تحت حكم أبناء أسرة الجلندى.
وفي عهد الخليفة عبدالملك بن مروان كانت عُمان والتي يحكمها سليمان وسعيد أبناء عباد ابن الجلندى بالنسبة له اقتصاديا وسياسيا من أهم الأماكن التي أراد السيطرة عليها، فعُمان في عهده مثلا ُضربت فيها النقود لصالح الدولة الأموية لمكانتها وأهميتها الاقتصادية منذ عام 81هـ - 700م، فلا تجد عادة دولة تضرب أو تطبع فيها النقود بلغة اليوم إلا ولها ثقل اقتصادي كبيرفي المنطقة.

ومن هذا المنطلق فمن الطبيعي جدا أن تعلن الدولة الأموية بتعاقب خلفائها وولاتها الحرب على عُمان لإخضاعها نحو سيادتها، ومنهم الخليفة عبدالملك بن مروان وواليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان منذ بدايات حكمه يعامل أزد عُمان في البصرة بكل جفاء وقصصه مع العماني جابر بن زيد والمهلب بن أبي صفره وابنته هند التي تزوجها تملأ كتب التاريخ.

وعموما اتفق عبدالملك بن مروان مع واليه المتحمس لغزو عمان لتجهيز جيش لاحتلال البلاد وإخضاع ملوكها وأهلها للحكم الأموي، ولم يتوان الحجاج في ذلك فتم تجهيز الجيش بقيادة القاسم بن شعوةالمازني ليتجه إلى عمان عام 77 هـ تقريبا، فأبحر الجيش من البصرة متجها إلى عُمان ويقال بأنه وصل إلى منطقة يتي بمسقط، فتقابل الجيشان في وادي حطاط والعمانيون يومئذ بقيادة الملك سليمان فكانت معركة كبيرة قاتلت فيها القوات العمانية بكل ضراوة الجيش الأموي الذي استبسل هو الآخر من أجل إخضاع البلاد ونيل الغنائم، ولم تحدد المصادر التاريخية أعداد المتقاتلين، ولكن ما نتخيله بواقعية بأن أعداد الضحايا في هذه الحرب كانت كبيرة للغاية، فالجيش الأموي معروف بقسوته، والجيش العماني معروف بشجاعته وقوته.

أما المحصلة النهائية لمعركة وادي حطاط فكانت من صالح العمانيين الذين استطاعوا هزيمة القوات الغازية وقتل قائدهم القاسم بن شعوة، ولاذ البقية بالفرار ليعودوا خائبين للحجاج الذي صعق وغضب من النتائج الكارثية التي حلت بجيشه في مسقط، وكذلك الحال للخليفة الأموي عبدالملك بن مروان والذي بدوره لم يتوان بتجهيز حملة أكبر للقضاء على العمانيين وإخضاعهم تحت سلطته، وكالعادة أتت الأوامر للحجاج لتجهيز هذا الجيش واختيار قائده، فتم له ذلك وجعل على رأس قواته مجاعة بن شعوة شقيق القائد السابق الذي سقط في مسقط قتيلا، وكان اختيار الحجاج لمجاعة يهدف في الأساس ليقود جيش الأمويين بشراسة أكبر من أجل الانتقام من العمانيين وحكامهم وبالتالي تحقيق أمنيات خليفتهم بالسيطرة على عُمان، وكانت الأوامر أن ينقسم جيشهم إلى جزأين فالأول نزل في جلفار، ليجهز العمانيون بقيادة ملكهم سليمان جيشا عسكر في البريمي استعدادا للمعركة الحاسمة، وتذكر بعض المصادر بأن المعركة حدثت في تلك الأنحاء بشمال عُمان لتنتهي كذلك لصالح العمانيين، أما الجزء الآخر من الغزاة بقيادة مجاعة فقد وصلوا إلى سواحل الباطنة وتحديدا بالقرب من مدينة المصنعة ومنها توجه إلى بركاء لملاقاة العمانيين بقيادة ملكهم الآخر سعيد بن عباد.

كانت النتيجة مؤلمة لسعيد فقد انهزم جيشه وانسحب إلى داخلية عُمان، ينتظر نجدة شقيقه الملك سليمان الذي كان عائدا منتصرا في معارك شمال عُمان، وحينما وصل إلى مسقط وجد الجيش الأموي وقد سيطر على الميناء بأسطول بحري ضخم، واستطاع سليمان واتباعه مهاجمتهم وحرق أكثر من 50 سفينة بمعارك كر وفر لم يستطع حسمها نتيجة انشغاله بشكل طارئ للتوجه إلى نجدة أخيه من مجاعة وجيشه الذي كان يلاحقهم، ليلتقي المتخاصمون مرة أخرى بالقرب من سمائل، وأسفرت المعركة عن الكثير من القتلى دون أن تميل كفة النصر لأحدهم لينسحب بعدها مجاعة بجيشه عائدا إلى ميناء مسقط ومنها انتقل ببقية قواته إلى جلفار منسحبا من المواجهة ومنكسرا من الهزيمة التي كادت أن تودي بحياته بانتظار المدد من الحجاج والذي ما أن وصله خبر المعارك وضراوتها حتى بعث بجيش إضافي بقيادة عبدالرحمن بن سليمان والذي حينما وصل إلى جلفار اتحد مع مجاعة ليهجموا مرة أخرى على الملكين سليمان وسعيد.

لم يكن موقف ملكي عًمان في أحسن حال فقد أنهكتهم المعارك كثيرا وعلموا تماما بأن الأمويين لن يكتفوا من أذية عُمان لرغبتهم في القضاء عليهم كأميرين مستقلين عن الدولة الأموية واستطاعوا من القضاء على القوات الأموية في معركة وادي حطاط التي كانت من أكبر النكسات العسكرية للخليفة عبدالملك بن مروان وواليه الحجاج.

لذا وتجنبا للكثير من الدماء التي لا زالت تستباح في هذه الحروب، قررا بعد التشاور مع أكابر القوم التوجه إلى شرق أفريقيا وتأسيس مملكة عمانية ضخمة هناك ينتزعون ملكها من الأمويين وبالتالي إضعافهم في الجبهة الأفريقية وتوحيد القوة العمانية مرة أخرى والتي أُنهكت اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وبالفعل هاجرا متجهين مع أتباعهم إلى شرق أفريقيا وتحديدا إلى كينيا ( أرخبيل لامو ) وأسسوا هناك مملكة عمانية قوية ظلت تحكم لعدة قرون في ظل ازدهار اقتصادي وسيطرة سياسية نقشت أمجادها في صفحات التاريخ.

أما عُمان ونتيجة ما حدث فقد وقعت سواحلها بقبضة الخليفة عبدالملك بن مروان، وأصبح يعين هو والحجاج ولاتهم فيها ليديروا أمر سيطرتهم، هناك والتي ما لبثت إلا وانهارت بعد وفاة عبدالملك وبدأت البلاد في التوحد والتحرر من قبضة الأمويين، إلا في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز والذي أحبه العمانيون كثيرا لعدله، لدرجه أنهم شكوا له الحال من سوء أحد ولاته ليعزله الخليفة مباشرة ويعين بديله رجلا يدعى عمر بن عبدالله العوسري الذي بقى بدوره في عمان حتى اغتيال الخليفة عمر بن عبدالعزيز مسموما، وهكذا استمر الحال بين سيطرة ضعيفة وبين تحرر العمانيين من سلطتهم حتى انهارت دولتهم وظهرت الدولة العباسية ومنها أعلن العمانيون مرة أخرى الاستقلال بحكمهم وعدم الاعتراف بالدولة العباسية لذات الخلافات السياسية في قضية الحكم دون شورى، ليصل في الأخير أهل عُمان لانتخاب حاكمهم الجلندى بن مسعود الجلنداني إماما لهم سنة 132هـ، كأول تجربة ديمقراطية في البلاد العربية بعد عهد الخلفاء الراشدين لتبدأ فصول حكاية أخرى من الحروب بين العمانيين وسلطة الدولة العباسية، وتبقى في الأخير عُمان عصية على المعتدين مستقلة بإيمان أهلها والمبادئ والأسس التي نشأوا عليها منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.

المرجع :

1 – الخليج بلدان وقبائل، س.ب.مايلز، ترجمة : محمد أمين عبدالله، الطبعة الثانية 2016م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.

2 – عُمان عبر التاريخ ج1-2، سالم بن حمود بن شامس السيابي، الطبعة الخامسة -2014م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.
3 - رسالة النقود الإسلامية المضروبة في عمان منذ القرن الثالث إلى القرن الخامس الهجري، إبراهيم بن أحمد الفضلي، جامعة المنصورة 2017م.