أول ديمقراطية عمانية أرعبت أركان الدولة العباسية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١١/يوليو/٢٠١٩ ١٤:٠٧ م
أول ديمقراطية عمانية أرعبت أركان الدولة العباسية

بقلم - نصر البوسعيدي

حينما علم السفاح مؤسس الدولة العباسية بأن العمانيين قد مارسوا حقهم الديمقراطي في انتخاب حاكمهم بعيدا عن الاستبداد الذي حل بالعالم العربي باسم الخلافة جن جنونه مخافة أن يحاكي بقية العرب الثورة العمانية من أجل حريتهم!!

لقد كانت عُمان وما زالت مثالا يحتذى بها في ضرب أسمى معاني التمسك بالمبادئ ولو كان ذلك على حساب الحياة حينما يتهددهم أي عدو.

وجميعنا يعلم بأن العمانيين ومنذ بدايات الفتنة والصراع على السلطة في الأمة الإسلامية خاصة بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان وسيدنا علي بن أبي طالب، وتأسيس الدولة الأموية ومن ثم العباسية على أنقاض الفتنة والدم واستغلال الدين، والتي تحول فيها الحكم في النهاية من الشورى والديموقراطية إلى نظام الحكم الوراثي والذي عارضه بشده أهل عُمان الذين كانوا متمسكين جدا بنظام الديمقراطية التي سار عليها الخلفاء الراشدين في انتخاب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي للحكم والخلافة.

كان انهيار الأسس الديمقراطية في الوطن العربي شاخصا وللأسف منذ ذلك الوقت وأصبح القوي يأكل الضعيف باسم الخلافة، بل كانت هناك ممارسات شنيعة وإجرامية في تصفية الخصوم والتمثيل بجثثهم وفق فتاوى كراسي الحكم والسلطة، ولذا جاز لي أن أقول بأن كل هذه الممارسات السياسية لنيل السلطة والتي انبعثت من خلال دول الخلافة الأموية والعباسية هي من الأسباب الحقيقية لتدهور الديمقراطيات العربية حتى يومنا هذا، مع عدم نكران ذلك التقدم العلمي الباهر لعلماء المسلمين وأدبائهم وفلاسفتهم في تلك الأزمنة التي حكم فيها الأمويون والعباسيون، ويكفي أن نرى مثلا مجد دمشق والأندلس وعلمائها ومجد بغداد وفارس وأدبائها ما بين العهدين.

ولنعد إلى عُمان سياسيا، فقد كان أهل البلاد متمسكين تماما بمبدأ الشورى والديمقراطية في الحكم مثلما أسلفنا سابقا، بل كان الصراع مستمرا بين العمانيين والخلافة الأموية وبالأخص في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان وواليه الحجاج، وكان الصراع بين كر وفر وسيطرة أموية محدودة إلى استقلال عماني متقطع الفترات وهكذا استمر الحال حتى سقوط الأموييين وظهور الدولة العباسية التي وصلت للسلطة بعد هتك دماء منافسيهم ومن والاهم، ولقد أعلن أبو العباس عبدالله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب الهاشمي القرشي بأنه أمير المؤمنين والخليفة المؤسس للدولة العباسية عام 132هـ - 754م بعدما قضى بكل عنف على خصومه الأمويين ليعرفه العالم أجمع بالسفاح لقسوته الشديدة.

لم يتوان أهل عُمان في ترتيب صفوفهم من أجل توحيد كلمتهم واتباع نهج نبيهم وصحابته الأربعة بعد سنوات عجاف ذهب ضحيتها الكثير، ليتمكن في الأخير أهل الحل والعقد والثقة منهم من ممارسة حقهم الديمقراطي في اختيار حاكمهم الذي كان يلقب بالإمام ليصبح سيد عُمان مستقلا بها عن كل الصراعات التي كانت تدوي في الوطن العربي والعالم الإسلامي بشكل عام.

وما أن أعلن السفاح بداية عهد الخلافة العباسية، أعلن أهل عُمان في نفس الوقت ويتقدمهم شبيب بن عطية، وموسى بن أبي جابر الأزكوي، وهلال بن عطية انتخابهم شورى لحاكمهم وإمامهم الجلندى بن مسعود بن جيفر بن الجلندى بن المستكبر بن مسعود بن الحرار بن عبد عز بن معولة بن شمس الأزدي أحد أحفاد أكابر ملوك عُمان سنة 132هـ.

هذه التجربة الديمقراطية العمانية التي سطع شمسها في عالم عربي وإسلامي غارق في الفتنة والتسلط والمذابح، كانت كالنور والأمل المنبعث للكثير من الشعوب المقهورة والمنكوبة تحت سلطة تتوارث الحكم رغما عن الجميع، لذا فالتجربة العمانية وسط كل هذه المعمعة كانت هي الأولى في العالم العربي من بعد عهد الخلفاء الراشدين، وقد كانت الأخطر بالنسبة للدولة العباسية والتي أعتبرت عُمان بديمقراطيتها بلادا متمردة حق عليها الحرب وفق أوامر وتوجيهات السفاح.

وعطفا على ما حدث فالإمام الجلندى بن مسعود نال ثقة أهل الحل والعقد وكبار العلماء نتيجة صفاته الخلقية الحميدة، فقد كان رحيما عادلا عفيفا مؤمنا لا يخشى من أجل الله وعُمان لومة لائم، فقبل التحدي وثقة العلماء به وبحكمه أمام التمرد الداخلي والأخطار الخارجية، فكان عليه توحيد عُمان تحت سلطة واحدة وبنفس الوقت التصدي لكل الغزاة.
في هذه الأثناء كانت الدولة العباسية تلاحق جميع الخارجين عن سلطتها ومنهم قائد الصفرية شيبان بن عبدالعزيز اليشكري، الذي هرب من الجيش العباسي نحو عُمان وتحديدا وصل إلى جلفار، وهناك بعث له الجلندى بن مسعود جيشه العماني للتفاوض معه من أجل خروجه من أرض عُمان سلما دون حرب إن لم يرض بالشروط العمانية لحمايته، وحينما رفض شيبان كل الشروط وأصر على بقائه في جلفار، نشبت المعركة بين الطرفين لتنتهي بانتصار ساحق للجيش العماني بقيادة هلال بن عطية الخراساني ومقتل شيبان بعد هروب أصحابه ليقدم أهل عُمان خدمة جليلة مجانية للدولة العباسية التي تخلصت من شيبان الذي يلاحقونه من مكان لآخر.

لم يكن يعلم قائد العباسيين خازم بن خزيمة الذي كان مسؤولا عن قتل آلاف الضحايا لصالح خليفته أن شيبان قد تم قتله في عُمان، فحينما وصل بقواته إلى جلفار وعلم بمقتل خصمه طالب العمانيين وحاكمهم الجلندى بأن يخضعوا ويعترفوا بسلطة الخلافة العباسية وبأن أوامر الخليفة تقتضي بالقضاء على شيبان وإخضاع عُمان، وأن يسلمهم خاتم وسيف شيبان، وهنا استشار الجلندى أصحابه في ذلك، وأصبح القرار بتصويت الأكثرية برفض المطالب العباسية والمتعلقة خاصة بتبعية عُمان للعباسيين، ليعلن هنا خازم الحرب على الجلندى وأصحابه بجلفار عام 134هـ -751م فوقعت المعركة والتحم الجيشان بكل ضراوة انتصر فيها العمانيون في بادئ الأمر ليفقد العباسيين الكثير من جنودهم ومنهم إسماعيل شقيق خازم الذي تراجع غاضبا ليعد العدة في الساعات المقبلة ويرتب صفوف جيشه مرة أخرى لقتال خصومه، وبعد أكثر من معركة لم تحسم بين الطرفين استخدم خازم أسلوب الغدر لتوجيه ضربة قاصمة للجلندى واصحابه، فتجاوز جميع الأعراف والمبادئ التي اعتاد عليها الرجال في المعارك فأمر جنوده ليلا بالهجوم على النساء والأطفال بحرق منازلهم برميها بالرماح الملتهبة مما اضطر أن يترك العمانيون أرض المعركة وينشغلوا وهم مرتبكون للغاية في انقاذ ما تبقى من النساء والأطفال وإطفاء الحرائق التي قتلت الكثير من الأبرياء غدرا.

في هذه الأثناء اقتحم الجيش العباسي صفوف العمانيين واستطاع هزيمتهم هزيمة أليمة تمت فيها مذبحة لن ينساها التاريخ بعدما تم تقطيع رؤوس الضحايا وحرق أغلبهم ليبقى الجلندى وبعض صحبه في مواجهة المصير الذي كتبه الله على أهل عُمان.

لم يهرب الجلندى بن مسعود من أرض المعركة ولم يترك أصحابه ولم يكن كخصمه جالسا في كرسي الحكم يرسل فقط قادته إلى أرض المعارك، بل كان في مقدمة الجيوش يقاتل من أجل الكرامة والحرية التي آمن بها لعمان، فواجه الجيش العباسي بشجاعة حتى تم قتله ببشاعة بالتمثيل بجثته وقطع رأسه وإرساله إلى الخليفة العباسي بالعراق ليهدأ باله ويطمئن بأنه استطاع وأد هذه التجربة الديمقراطية بقطع الرؤوس، وكأن مشهد الفتنة في كربلاء ومقتل الحسين وقطع رأسه وإرساله لدمشق على يد الجيش الأموي يتكرر بنفس الأسلوب والعنف في أرض عُمان وتحديدا مدينة جلفار (رأس الخيمة) والتي تشربت تربتها بدماء العمانيين.

بعد هذه الفاجعة أصبح أمر بعض أجزاء عُمان مؤقتا تحت حكم العباسيين الذين استخدموا أعداء الجلندى من أبناء عمه ليحكموا البلاد باسم السفاح الذي مات كذلك متأثرا بالجدري بعد عامين فقط من احتفائه بالقضاء على الجلندى وأصحابه.

وكالعادة لم يستمر حكم الطغاة دون انكسار فقد جمع العمانيون مرة أخرى وحدتهم وشمل كلمتهم وأعلنوا انتخاب حاكمهم بالشورى والانفصال نهائيا عن تبعية الدولة العباسية عام 177هـ بانتخاب محمد بن أبي عفان ومن بعده الوارث بن كعب قاهر جيوش هارون الرشيد والخ من الائمة الذين تعاقبوا فيما بعد لحكم عُمان.

المرجع :
1 - آل الجلندى ودورهم في التاريخ العماني – دراسة تاريخية- ، مريم بنت سعيد بن مبارك البرطمانية، دائرة النشر العلمي والتواصل – جامعة السلطان قابوس، الطبعة الأولى 2015م ، مسقط – سلطنة عُمان.
2 – الويكيبيديا موضوع ( أبو العباس عبدالله السفاح ).