الغراس السلمي والعفو والتسامح

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٦/يوليو/٢٠١٩ ١٨:٢٨ م
الغراس السلمي والعفو والتسامح

بقلم: محمد بن رامس الرواس

منذ أن استلم جلالة السلطان مقاليد الحكم في السلطنة عام 1970م كانت أمامه جملة تحديات صعبة أولها الأمن الداخلي للوطن والوحدة الوطنية التي حرص عليها من أول يوم ، فاستبدل اسم سلطنة مسقط وعمان بسلطنة عمان وأوجد علماً يحمل رمزية الوطن الواحد والشعب الواحد ، وهو إشارة مباشرة لترسيخ لحمة الوحدة الوطنية ، وإنهاء حالة التمرد التي كانت قد اشتعلت في ظفار ، هذا بجانب تحديات أخرى ، منها إخراج عمان من براثن الجهل والعوز إلى مسالك النور و التقدم والتطور .
لم تكن الحرب التي سعى إليها المتمردون الحاملون للفكر الشيوعي ، بعد أن بدأت النهضة المباركة في جبال ظفار تتطلب مجابهتها بالسلاح والجنود فحسب فهذا أمر مقدور عليه ، فجلالة السلطان رجل عسكري فذ من الطراز الأول ويعرف طريقه إلى النصر بإذن الله ، ولكنها كانت تحتاج إلى مواجهة فكرية وعسكرية ، فالفكر الماركسي ونظريات لينين وماركس كانت قد بدأت تنتشر ، وهناك من يعتنقها فهو فكر خبيث يدغدغ أحلام الفقراء والمساكين وقليلي العلم والفكر، لذا كان فرضاً على جلالة السلطان أن يواجه خصومه عبر جبهتين السلاح بالسلاح ، والفكر بالفكر ، هذا بالإضافة إلى إطلاق مشروع التنمية بالوطن وتقديم الخدمات الأساسية من صحة وتعليم للمواطنين .
لم يكن جلالة السلطان يريد أن يطيل أمد الحرب بل كان ساعياً إلى إنهائها بأسرع وقت ممكن ولقد حانت الفرصة يوماً من الأيام ، عندما تم إبلاغه أن هناك مجاميع كبيرة من عصابات الفكر الماركسي قد تم محاصرتها بوادي بالمنطقة الغربية ولا يحتاج الأمر سوى قرار من جلالة السلطان بسحقهم والوصول إلى خطاب النصر بسرعة ، لكنه رفض ذلك ، رفض إراقة الدماء ، فهناك الأطفال والنساء والشيوخ ، بل وجه بأن يكون هناك ممر آمن كي يخرجوا سالمين من الوادي الذي تمت محاصرتهم فيه ...
هكذا كان ولايزال رجل سلام ورجل قرار ، وهذا قرار لا يتخذه إلا دعاة الخير والسلم والسلام الذين يسعون في الأرض نحو نشر الخير في كافة أرجاء بلادهم والمعمورة قاطبة .
وخلال سنوات الحرب التي امتدت إلى عام 1975م كان هدف جلالة السلطان أن يعود الناس إلى مناطقهم بالسهل والجبال آمنين بعد أن هاجروا وهُجّروا منها عنوة ، وكان الهدف في هذه المرحلة أن ينعم الوطن بالسلم والسلام ، وكان أشد ما يواجه جلالة السلطان وجود النازحين ونقص الخدمات والاضطراب الأمني في الجبال ، وانتشار الأوبئة في مناطق الالتحام والمعارك ، و تحقق له المراد بحسن قيادته الشجاعة واستتب الأمر له بفضل الله تعالى .
واصل جلالة السلطان نهجه السامي للدعوة للسلام وقت الحرب ، فدعا إلى العفو والتسامح ومد يد الصلح وبذل في ذلك جهداً كبيراً ، وجند له أناساً عملوا على تحقيقه ، فهو يعلم حفظه الله أن هناك أناساً غُرر بهم ، ويجب أن يأخذ بأيديهم إلى وطنهم، ويجعلهم مساندين للتنمية والتطوير بدل أن يتركهم لمصيرهم في آتون المعارك والاستنزاف ، فأزال الغمة ، وأعلن عن رؤيته ومنهاجه السليم عبر خطاباته وفي وسائل الإعلام المختلفة وبدأ بتعمير عمان بيد ، ويدعو إلى السلام بيد أخرى فهو يريد أن ينقل الحال من الرصاص إلى الغراس.
ولم يزل يعمل في هذا الشأن حتى وضعت الحرب أوزارها، وأعلن جلالة السلطان عام 1975 انتهاء الحرب وانتصار السلام ، فهناك الكثير من الاستحقاقات تنتظر أهل عمان ليباشروها ...
كان الناس والأهالي في الجبال والمدن والساحل والبادية ينتظرون هذا الخطاب فقد سئموا الحرمان والتشريد وهلاك الزرع والنسل وكان الخطاب السامي لجلالة السلطان عام (1975) بإعلان النصر في ظفار دعوة لمرحلة جديدة كلها آمن وأمان وسلام ورخاء وتنمية وتطوير وعمل وجد واجتهاد .
لم تقف هذه الحرب منذ بداية السبعين حائلاً أمام جلالة السلطان من تنفيذ مشاريعه التنموية، وذلك لإيمانه بأن نشر الخدمات التنموية جزء من الحل، كما أن مجابهة الفكر بالفكر هو حل آخر قبل الحل النهائي للانتصار الشامل عسكرياً .
كان جلالة السلطان يسعى بكل جهد لإقامة مشروع نهضوي وبناء المجتمع قبل تفكيره في إنهاء الحرب ونزع العنف، فوضع خططاً تنموية حقيقية فهو إذاً رجل سلام يُوجد طرق قياس مختلفة للوصول إلى استقرار ونهاية للاستنزاف .

ومنذ أن أعلن جلالة السلطان في خطابه انتهاء الحرب في ظفار، وجه الدعوات بعدها مباشرة لبناء عمان عبر نهضة تنموية شاملة ، وفتح الباب للمواطنين للعودة للمساهمة في بناء عمان والمساهمة في إخراجها من عزلتها والحرص على استيعاب الجميع في بناء الوطن ، وتوجيه الخطابات المباشرة للمعارضين والمنضمين في حركة التمرد والمعارضة الخارجية ، فاستجاب المئات من العمانيين من الداخل والخارج فقد وجدوا في يد جلالته المباركة عفواً حقيقياً وأماناً صادقاً ، فهو رجل مصلح يدعو إلى الإصلاح ما استطاع ، ويريد أن يؤسس دولة مكتملة الأركان ، ولديه طموحات وآمال يدعو الجميع أن يشاركوه الإنجازات ، وكان يعلن ذلك عبر خطاباته ؛ فالكاريزما والشخصية الفريدة لجلالة السلطان ساعدت على قيامه بدوره في تأسيس دولة سلام بالمنطقة العربية ، فنجح في أصعب التحديات والمعضلات الداخلية التي واجهته لإرساء بلد أمن وأمان .
بدأ جلالة السلطان مرحلة السلام والتنمية بإعلانه العفو العام وانتشرت مقولته المشهورة " عفا الله عما سلف " ، ودعوته هذه كانت لكل العمانيين ، بهدف العودة والمساهمة في بناء الوطن ، بدأ منذ خطابه الإذاعي الأول إلى الشعب في التاسع من أغسطس 1970م ، ولاقت بعد ذلك دعوته آذاناً صاغية بين صفوف جميع العمانيين في الداخل والخارج ، واستمرت حركة الانضمام لحكومة السلطان الرشيدة ، وتسارعت حركتها في الازدياد عاماً بعد عام حتى وصلت ذروتها في عام 1976م .
ولقد ساهمت تلك الجموع الغفيرة التي أيدت جلالة السلطان والتي استجابت بالعودة إلى الوطن في دعم السلطان ومسيرته المباركة والمشاركة فيها .
والجدير بالملاحظة أن السلطان لم يركز على فئة بعينها في دعوته للعودة ، ولم يشر إلى فئة دون غيرها في إعلانه للعفو ، ولذلك عاد الكثير من ثوار الجبل الأخضر ، وتضامن معه الكثير من ثوار ظفار أينما كانوا سواء بالداخل أو الخارج ، خصوصاً بعد ثبات خطوات مسيرة عمان بتوجيهات جلالته المطمئنة للجميع بأن الرخاء والخير ينتظرهم بوطنهم عمان .
ولقد كان عفو جلالته أعظم قيمة وأشمل معنى وأكبر كرماً حيث شمل العفو الجميع دون استثناء سواء المتورطين داخلياً وخارجياً مع التنظيمات أو المقيمين داخل أو خارج السلطنة وحتى أولئك الذين لم يمثلوا أمام المحاكم المختصة ، لا شك أن هذا العفو قد رسم البسمة على الشفاه فانهمرت دموع البعض بالفرح ابتهاجاً بالعفو السامي ، وعمت الفرحة بين الرجال والنساء والأطفال ، حيث كان العفو السامي الكريم الذي تهفو له القلوب فرحاً وحباً يتناقله الناس في كل مكان من أرض السلطنة وخارجها ، وهو الحدث الأهم في الجلسات وعبر الهاتف والمجالس وأينما كانت هناك آذان عمانية صاغية .
وبحمد الله وفضله تجمع شتات الوطن تحت ظل دعوة رجل السلام جلالة السلطان ، وما ذلك إلا دلالة أكيدة لسمو وعظمة الأب الحنون ، والذي يَنشد دائماً كل معاني السلام والأمل والرفق بالأبناء فصاحب الجلالة هو أب لكل أبناء عمان ، سواء من يعيش على أرض عمان أو خارج الأرض العمانية ، مهما تباعدت المسافات يظل العماني يحيا في كنف أب كريم رحيم .

*عضو مجلس أدارة جمعية الكتاب والأدباء فرع محافظة ظفار