تحديد المساواة

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٠٨/أغسطس/٢٠١٩ ١٤:٤٦ م

هارولد جيمس

إن انعدام المساواة هي القضية السياسية والاقتصادية الرئيسة في عصرنا الحاضر ولكن الجدل حول هذا الموضوع يعاني منذ فترة طويلة من عدم الدقة فعلى سبيل المثال فإن وحدة القياس الاعتيادية لإنعدام المساواة وهي «معامل جيني» تخفض توزيع كامل دخل بلد ما الى رقم وحيد بين صفر وواحد مما يعتبر مجردا للغاية وبينما يزداد انعدام المساواة في اجزاء كثيرة من العالم فإنه لا توجد علاقة بسيطة مباشرة بين ذلك التوجه والسخط أو الإضطرابات الاجتماعية .ان انعدام المساواة اقل بكثير في فرنسا مقارنة بالولايات المتحدة الامريكية ولكن ومع ذلك فإن فرنسا لديها مستويات مماثلة أو حتى اكبر من الاستقطاب الاجتماعي .

أما اليوم فإن الجدل المتعلق بإنعدام المساواة قد بدأ فعليا سنة 2013 مع نشر الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي لكتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين « والذي وجد ان معدل العائد على رأس المال عادة ما يرتفع بشكل اسرع من معدل النمو مما يتسبب في زيادة انعدام المساواة مع مرور الوقت وعلى وجه الخصوص فإنه يبدو ان صعود قيمة العقار هو محرك اساسي لزيادة انعدام المساواة ولكن هنا ايضا نجد انعدام للدقة الى حد ما فالعقار في واقع الامر ليس بضاعة متجانسة وذلك نظرا لإن قيمته تعتمد على « الموقع ،الموقع ،الموقع « فهناك قلاع وقصور انيقة قيمتها الان اقل من شقق صغيرة في مدن رئيسة .

إن الثروة تثير الكثير من الجدل عندما تكون ملموسة بشكل اكبر مثل عندما تصبح المساحات الفعلية بضائع ترمز للمكانة فالمكتب الموجود في الزواية يصبح مرغوبا لإن الاخرين لا يستطيعون الحصول عليه وبشكل عام وبينما أصبحت المدن الكبرى اماكن جذب للنخبة العالمية ، زادت صعوبة تحمل تكلفة الاقامة فيها بالنسبة للعاملين بالمكاتب والشرطة والمعلمين والممرضين ومن هم في مستواهم وبينما يضطر هولاء لتحمل رحلات طويلة ومتعبة يوميا اجل الوصول للعمل فإن النخب تستخدم المدن العالمية بالشكل الذي يناسبها بحيث تتنقل من مكان لاخر . ان اجزاء كبيرة من باريس ولندن مغلقة بشكل مخيف في الليل ويوجد في منهاتن الان حوالي ربع مليون شقة فارغة .
كلما اجتاح العنف والثورة مجتمعات غير متساوية ،ترّكز السخط على العقار وفي السنوات اللاحقة للامبرطورية الرومانية الغربية كانت العقارات الكبيرة تعود للنخبة الارستقراطية فقط وفي عظة دينية شهيرة من تلك الفترة استنكر قديس امبروس اوف ميلان وهو يستذكر قصة كرم نابوث النخب وذلك كونها « تبذل كافة الجهود لدفع الشخص الفقير لمغادرة منزله الصغير ودفع الناس بعيدا عن حدود الحقول التي تعود لاسلافهم .» لقد أظهر المؤرخ الفرنسي الاجتماعي مارك فيرو ان العديد من سكان المدن الروس التحقوا بالبلاشفة سنة 1917 ليس بسبب حماستهم الايدولوجيه ، بل بسبب ان النظام القديم والاحزاب الدستورية الجديدة اثبتت فشلها في توفير الطعام والسكن. خلال فترة الحرب العالمية الاولى ، تمكنت مدينة بيتروغراد من تطوير صناعة ذخائر ضخمة يعمل بها أشخاص تم تجنيدهم بالريف واحضارهم للعمل في المصانع التي تم توسيعها مؤخرا ولكن مخططي الانتاج اهملوا الاجابة على سؤال اين سيسكن هولاء العمال وفي سنة 1917 جاءت مجتمعات العمال (السوفيات ) بالحل وهو مصادرة الشقق من الارستقراطيين والبرجوازيين .
لقد كان هناك نمط مشابه في مدن اخرى حصل فيها تصنيع غير مخطط له وسريع آبان فترة الحرب (بودابست وميونخ وتورين ) وما يعادلها اليوم هي مراكز للاقتصاد الجديد مثل وادي السيلكون والاماكن عالية التقنية المقلدة لها في اوروبا واسيا . ان تلك المدن توفر العديد من الوظائف ولكنها فشلت تماما في توفير سكن للناس الذين يعيشون هناك بالفعل ونتيجة لذلك حتى المهنيين الذين ينتمون للطبقة المتوسطة يعيشون في السيارات وسيارات النقل والمقطورات .
إن هذه الصعوبات غير مقتصرة على المدن العالمية نفسها فدعم بريكست في جنوب شرق انجلترا كان يعود جزئيا الى تصور ان لندن وضواحيها قد اصبحت صعبة المنال بسبب تكلفتها العالية وذلك نتيجة للهجرة الزائدة والنشاطات المالية العالمية والسياحة أي بإختصار العولمة.
ان من الواضح ان الرد السياسي على مشكلة العقارات غير كاف لغاية الان وحتى ان هذا الرد أتى بنتائج عكسية فبعض المدن الاوروبية الكبيرة بدأت بضبط عملية ايجار العقارات على الرغم من السجل السيء لمثل تلك السياسات . عندما حاولت نيويورك القيام باجراءات مماثلة في القرن العشرين ،نضب السوق المفتوح وصارت العقارات غير مطروحة للبيع او يتم الاتجار بها بسعر مرتفع في السوق السوداء .وعندما قامت المملكة المتحدة بتقديم دعم مالي للذين يشترون المنازل لاول مرة ارتفعت اسعار تلك المنازل وفقا لذلك مما يعني خسارة اي فائدة محتملة .
إن ازالة الإمتيازات الضريبية كما فعلت الولايات المتحدة الامريكية مؤخرا وذلك من خلال فرض سقف بقيمة 10000 دولار امريكي على التخفيضات الضريبية على مستوى الولاية والمستوى المحلي تعتبر مقاربة افضل قليلا ولكنها لن تحل مشكلة اساسية تتعلق بالعرض وعليه لم يكن من المفاجىء ان نجد مقترحات راديكالية وحتى على الطراز البلشفي تظهر مجددا فعلى سبيل المثال هناك مبادرة تحظى بالشعبية في برلين وذلك من اجل تأمم ممتلكات اصحاب العقارات الذين لديهم ممتلكات على نطاق واسع (اولئك الذين يديرون اكثر من 3000 شقة ).
إن الحل الواضح لمشكلة العرض بالطبع هو بناء المزيد من المنازل ولكن المزيد من البناء يمكن ان يتعارض مع حماية البيئة والتراث المعماري للمدينة وعادة ما يلقى معارضة من ملاك العقارات الحاليين والذين لا يريدون ان تنخفض قيمة عقاراتهم.
في بعض الاحيان يمكن ان ينتج البناء الجيد اماكن جذب حضرية بديلة مثل عندما كانت هناك نقلة نوعية لمدينة بلباو الاسبانية بفضل اضافة متحف جوجينهام الذي صممه فرانك غيهري ولكن العديد من المدن الصناعية التي تعاني من تدهور اوضاعها قد جرّبت بالفعل هذا الحل ولكن قلة منها نجح وتلك المدن التي فشلت ما زالت في وضع مزري والان لديها عبء اضافي يتمثل في صيانة البنية التحتية للفنون الجديدة.
في نهاية المطاف فإن المدن والمناطق الحضرية والتي تقود عملية عمل الثروة الجديدة ستعمل على استفزاز الاخرين للقيام بحركة معاكسة واذا قامت بوضع اسعار مرتفعة او استثناء من يكسبون نقودا اقل فإنها بذلك تضحي بالانفتاح الذي جعلها جذابة في المقام الاول وعليه لو ارادت البقاء والازدهار في هذا المناخ السياسي القائم على المساوة اليوم فإنها بحاجة الى ان تأتي بحلول جريئة.
خلال فترة سابقة من الدينامية الحضرية في بداية القرن السادس عشر قامت عائلات التجار الاثرياء ببناء منازل رخيصة الثمن والتي تم تخصيصها لاحقا لذلك للفقراء . ان احدى تلك المشاريع مجمع فوجيري في مدينة اوغسبرغ الالمانية ما زال يوفر اسكانات اجتماعية بايجار منخفض حتى يومنا هذا.
لو لم نستطع توفير مثل تلك الاسكانات بشكل كاف فهل من الممكن تخصيص المساكن العامة عن طريق القرعة للمساعدة في وقف التماثل في المدن العالمية اليوم ؟ ان من المؤكد ان ذلك يستحق المحاولة.

أستاذ التاريخ والشئون الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ لدى معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، ومؤلف كتاب «خلق وتدمير القيمة: دورة العولمة».