عمان 2040... الحوكمة جوهر الرؤية 6/6

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٨/أغسطس/٢٠١٩ ١٦:٠٨ م
عمان 2040... الحوكمة جوهر الرؤية 6/6

يوسف البلوشي

هناك تعريفات متعددة لهذا المصطلح الذي يمثل العصب المفقود في كل وصفات التنمية والمعالجات المقترحة للاختلالات الهيكلية التي تعطل الانطلاقة في الكثير من الدول النامية، حيث تعني الحوكمة في أوسع معانيها: الإدارة الحصيفة المستندة الى معايير واضحة وشفافة لمختلف القطاعات والفرص المتاحة للدولة، وتفعيل الأدوار المسندة للحكومة ومؤسسات الأعمال وأفراد المجتمع، وإدارة كل مرحلة بشكل يتوافق مع متطلبات التنمية وتوقعات الفرد فيها، آخذاً بالاعتبار المتغيرات الجيوسياسة والاقتصادية والاجتماعية المتسمة بالتغير والتجدد.

ولقد عرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الحوكمة بأنها: “ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة وتسيير شؤون الدولة على كافة المستويات” ، كما عرفتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية “استخدام السلطة السياسية وممارسة الضبط والرقابة في المجتمع فيما يتعلق بإدارة موارده لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية”، بينما يعرفها بنك التنمية الآسيوي بأنها “الإطار المؤسسي الذي يتفاعل المواطنون من خلاله فيما بينهم وبين الهيئات الحكومية”.

من الواضح ومن خلال التعريفات المختلفة ان الحوكمة ترتكز في مبادئها على الشفافية والوضوح واتاحة المعلومة للفرد والمؤسسة لتمكين المحاسبة والمساءلة وتقويم الأداء، وترسي الحوكمة دعائم سيادة القانون و مكافحة الفساد والعدالة والمساواة في الحقوق والوجبات، وتنشر ثقافة العمل الجماعي معززة بذلك قيم الإنتماء والولاء والتنافسية الإيجابية في المجتمع، وهي بذلك تحاول دوماً أن تضع الفرد المناسب في المكان المناسب. عليه، فإن المختصين في مجال الحوكمة يرون أن مبادئها واعتباراتها ملزمة لتحقيق العدالة والرفاة الإجتماعي والإقتصادي، ولذلك فهي غير مفعلة في البيئات التي تستشري فيها ثقافة المجاملة و التحزب وتشرذم فرق العمل وانتفاء تكاملية الأدوار بين فرق العمل، وشيوع المعرفة السطحية بجذور ومسببات الظواهر والاختلالات المختلفة.
إن تفعيل أسس الحوكمة، يتطلب رغبة جادة، وتنازلات على مختلف المستويات، والقبول بالمحاسبة، والمسؤولية ومبادرات مؤسسية في سبيل تحقيق تنمية شاملة ومستدامة للجميع ويساهم فيها الجميع، والخروج من وضع إقتصادي يعتمد فقط على النفط الذي لا نتحكم بأسعاره ولا كمياته ولا التقنيات المنتجة له، ورسم مستقبل إقتصادي أكثر تنوعاً يتيح للجميع فرص التنافس والعمل، مكفولٌ بمبادئ الحوكمة القائمة على العدل والمساواة والحرية والمحاسبة والتقييم، فالتباطؤ في هذا المسار من شأنه ان يزيد من التحديات الحالية ، وسبل معالجتها بطريقة فاعلة وحاسمة.

ومن بين أهم قضايا الحوكمة ضخامة هيكلة الجهاز الإداري الحالي وتشعب وحداته الأمر الذي يصّعب الأدوار التنسيقية بين وحداته ويجعل الاطار التنظيمي معقدا ، وينعكس كذلك على تضخم الإنفاق في الموازنة العامة بشكل غير مستدام. وكذلك محدودية انتشار ثقافة الشراكة بين القطاع العام والخاص والمجتمع المدني والتي تعتبر أهم ممكنات نجاح الرؤية المستقبلية. أن تعدد مراكز اتخاذ القرار بين المؤسسات المختلفة، ينعكس سلبا على بيئة الاعمال وذلك بسبب ضعف تنظيم العلاقة بين الجهات الحكومية ومع مؤسسات الاعمال والمجتمع؛ وعدم وجود آلية منضبطة للتنسيق بينها، مع عدم وضوح آليات فض تنازع الاختصاص وعدم الزاميتها، ومحدودية الاتصال المؤسسي والشفافية. ولذلك يمثل محور الحوكمة والأداء المؤسسي جوهر الرؤية المستقبلية عُمان 2040، ويسعى إلى تعزيز فعالية الحوكمة وسيادة القانون، ورفع كفاءة الأجهزة الحكومية، ورفع درجة التنسيق بينها، وتعزيز ثقة المواطن، وذلك من خلال إطار مؤسسي يعمل على تفعيل القوانين والممارسات التي تحدد الصلات والتفاعلات بين ذوي العلاقة، ويساعد في إيجاد نظام مساءلة فاعل وشفاف، وكذلك تحديد أولويات القضايا والتوزيع الأمثل والعادل للموارد، إذ تعتمد نهضة الدول - من بين عوامل أخرى- على مدى متانة ورصانة مؤسساتها وحجم المعرفة لديها.

وأخذا في الاعتبار توافر هياكل ومنظومات مختلفة، مثل المنظومة اللوجستية من خلال وزارة النقل وشركات أسياد والطيران، منظومة الغذاء من خلال وزارة الزراعة وشركات نماء، منظومة السياحة من خلال وزارة السياحة وشركات عمران، ومنظومة الطاقة من خلال وزارة النفط وشركة النفط العمانية وغيرها من مكونات المنظومة الرئيسية للاقتصاد العماني. وهنا من المهم التأكيد على أهمية تأهيل هذه المنظومات، وتنظيم العلاقة بين وحداتها أولا، ومن ثم تنظيم العلاقة مع المنظومات والأطر المختلفة التي تمثل الإطار العام للاقتصاد وتوفر الخلطة الخاصة بتطور التنمية واستدامتها في المرحلة القادمة والتي من خلالها يتم اختراق الوضع الراهن والعمل على جذب الاستثمار الأجنبي المدروس لمساندة تلك المنظومات لتكبير حجم الاقتصاد وتعظيم الاستفادة من مواردة الطبيعية وخلق فرص العمل.

يمكننا القول أن السلطنة حققت خلال العقود الخمسة الفائتة قفزات تنموية أهمها بناء الإنسان العماني وتسليحه بالعلم والمهارات والثاني الاهتمام بالمكان وهذه الارض الطيبة سواء داخليا في بناء البنى الأساسية في القطاعات المختلفة والمحافظة على البيئة وصونها وخارجيا من خلال بناء مكانة رفعيه وعلاقات طيبة مع مختلف دول العالم. وتأتي المرحلة المقبلة باستحقاقات جديدة تستوجب أدوار وحوكمة جديدة وتحتم التحول في النموذج الحالي الذي أدى دوره بنجاح في المرحلة المنصرمة إلا أنه يستوجب التحول لمواكبة التغيرات والتحديات والحاجات للمواطنين ليكون قوام النموذج الجديد الاستثمار والانتاج والتصدير وريادة الأعمال.

وفي ختام سلسلة مقالات الرؤية والتي حاولت -من وجهة نظري- الاجابة على عدد من التساؤلات طالما تبادرت لأذهان العديد من أفراد المجتمع العُماني فيما يتعلق بالرؤية المستقبلية عمان ٢٠٤٠. وهنا أود التأكيد بأن التفاؤل والإرادة والإصرار هي عناصر أساسية لتحقيق رؤية عمان 2040، أو كما يسميها البعض رؤية التحولات في مختلف الجوانب. التحول من استغلال ما تحت الارض إلى ما فوقها من عقول، والتحول من نموذج تنموي معتمد على الحكومة كقاطرة للتشغيل والاستثمار إلى نموذج تتعدد فيه قاطرات النمو، والتحول من سوق عمل يعتمد على عمالة وافدة متدنية المهارة إلى سوق قوامه السواعد الوطنية المسلحة بمهارات المستقبل، والتحول من واقع يتبنى سياسات تكون نتاج استجابة لردود أفعال إلى سياسات استباقية تعتمد على دراسات استشراف المستقبل ومبادرات مجتمعية لضمان التحول إلى مجتمع منتج لا مستهلك، يقود التحول لا ينقاد إلى متطلباته. وعليه ولعلكم تتفقون معي فإنه لا مناص من إحداث نقلة نوعية في مختلف آليات إدارة الاقتصاد العماني والتعامل بفكر يتناسب مع المعطيات الجديدة وتحفيز قاطرات النمو وتعظيم الاستفادة من الموارد والمقومات والفرص المتاحة.

لا تزال شمس عمان ساطعة في تحفيز أبناء الوطن ومدهم بالطاقة، وشحذ همهم نحو العمل والنجاح، ولا تزال جبال عمان صامدة في تعظيم مقومات الاقتصاد وبنيته الأساسية وموارده البشرية والطبيعية. نعم أننا قادرون على أن نمتزج مع غيرنا في هذا العالم للبحث عن فرص جديدة في بناء الوطن، فننطلق معاً إلى آفاق رحبه واسعة، تحت القيادة الحكيمة لقائد البلاد حفظة الله، الذي عمل ليل نهار من أجل تمكين الشباب ومده بما يلزم ليكون عطاؤه بلاحدود.

yousufhamad@yahoo.com