سر صعود الصين

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٠/أغسطس/٢٠١٩ ١٨:٣٤ م
سر صعود الصين

تشانج جون

أذهل الصعود الاقتصادي السريع الذي شهدته الصين في العقود الأخيرة العالم. ومع ذلك، كثيرا ما يُساء فهم وتفسير الأسباب وراء نجاح الصين.

يُعزى صعود الصين في أغلب الأحيان إلى رأسمالية الدولة، والتي بموجبها تتمكن الحكومة، التي تتمتع بأصول ضخمة، من ملاحقة سياسة صناعية واسعة النطاق والتدخل للتخفيف من المخاطر. وعلى هذا فإن الصين تدين بنجاحها، في المقام الأول، لسيطرة الحكومة على الاقتصاد بالكامل.

الواقع أن هذا التفسير معيب جوهريا. صحيح أن الصين استفادت من وجود حكومة قادرة على تنفيذ سياسات شاملة ومتكاملة بكفاءة. وبسبب عدم خضوع القيادات للدورات الانتخابية القصيرة التي تميز الديمقراطيات الغربية، تتمكن القيادة المركزية في الصين من الانخراط في التخطيط التخيلي الشامل والطويل الأجل، والذي يتمثل في الخطط الخمسية.
علاوة على ذلك، عززت قوة الدولة الصينية قدرتها على التنفيذ، والتي تفوق كثيرا مثيلاتها في أغلب الاقتصادات النامية والانتقالية. كانت الدولة القوية ــ والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الذي تدعمه ــ ضرورة أساسية لتمكين تقدم الصين السريع في مجالات مثل التعليم، والرعاية الصحية، والبنية الأساسية، والبحث والتطوير.
لكن هذا ينبئنا أيضا بأن الصين تستخدم تخطيطها الطويل الأجل وقدرتها على التنفيذ ليس لترسيخ رأسمالية الدولة، بل لتعزيز التحرير الاقتصادي والإصلاح البنيوي. وهذه الاستراتيجية الطويلة الأجل ــ التي ظلت ثابتة على الرغم من بعض العثرات والانحرافات القصيرة الأجل ــ هي التي تكمن في صميم النمو الاقتصادي السريع الذي دام عشرات السنين.

من المثير للاهتمام أن عناصر هذه الاستراتيجية تأتي مباشرة من البلدان المتقدمة. فعلى مدار السنوات الأربعين الفائتة من التطبيع الدبلوماسي مع الولايات المتحدة، اكتسبت الرأسمالية على النمط الأميركي موطئ قدم راسخا في الصين، وخاصة بين النخب الفكرية والتجارية في البلاد. ولهذا، ففي حين كانت الحكومة الصينية حريصة دوما على إعطاء أولوية عالية للاستقرار، فإنها عملت أيضا على تطبيق أفضل الممارسات العالمية في العديد من المجالات، بما في ذلك حوكمة الشركات، والتمويل، وإدارة الاقتصاد الكلي.

بيد أن عملية التحرير الاقتصادي والإصلاح البنيوي هذه صينية متفردة أيضا، بقدر ما أكدت على المنافسة والتجريب على المستوى المحلي، الأمر الذي عمل بدوره على دعم الإبداع المؤسسي من القاعدة إلى القمة. والنتيجة نوع من الفيدرالية المالية بحكم الأمر الواقع ــ فضلا عن محرك قوي للتحول الاقتصادي.

الواقع أن ثمار هذا النهج لا يمكن إنكارها. ففي العقد الأخير، نشأت عِدة شركات مالية وتكنولوجية صينية عملاقة خاصة، والتي تمكنت، على النقيض من نظيراتها التي تديرها الدولة، من ترسيخ ذاتها كقائدة عالمية في عالم الإبداع. وتضم قائمة فورتشن جلوبال 500 لعام 2019 التي صدرت مؤخرا ــ والتي تصنف الشركات تبعا لإيرادات التشغيل ــ 129 شركة صينية، مقارنة بـ 121 شركة أميركية.
وبين الشركات الصينية على قائمة فورتشن جلوبال 500 شركات التجارة الإلكترونية العملاقة علي بابا، JD.com ، وتينسينت، وهي الشركة التي ابتكرت التطبيق المحمول الشهير WeChat. وقد تمكنت شركة التكنولوجيا العملاقة هواوي من الارتفاع 11 مرتبة على القائمة منذ العام الفائت، على الرغم من الحملة التي يقودها الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضد الشركة. كما تمكنت شركة Xiaomi التي لا يتجاوز عمرها تسع سنوات، وهي شركة مصنعة للهواتف الذكية، من صناعة التاريخ باعتبارها الشركة الأكثر شبابا التي تنجح في الوصول إلى هذا القائمة على الإطلاق.
الواقع أن الصعود المذهل الذي سجلته هذه الشركات ــ ومساعدتها في تعزيز الازدهار والقدرة التنافسية ــ لم يصبح ممكنا في المقام الأول بفضل سياسات صناعية تتجه من القمة إلى القاعدة، بل بفِعل التحرير الاقتصادي وما سمح به من إبداع من القاعدة إلى القمة. وفي حين تتهم الولايات المتحدة الصين باستخدام أدوات رأسمالية الدولة ــ مثل تقديم إعانات الدعم للشركات المحلية وإقامة الحواجز التي تحول دون دخول الشركات الأجنبية ــ لاكتساب ميزة غير عادلة، تجدر الإشارة إلى مدى عدم اعتماد الصين على مثل هذه السياسات في تحقيق نجاحها الاقتصادي.
هذا لا يعني أن قادة الصين لا ينبغي لهم أيضا أن ينتبهوا إلى برامج الإصلاح التي لم تكتمل. فبعد ثلاثين عاما من معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي التي تجاوزت 10%، كان التباطؤ حتميا. ولكن حتى مع قبول الحكومة المركزية في الصين لبعض الانخفاض في النمو السنوي، فيتعين عليها أن تكون يقظة وأن تظل على التزامها بمعالجة العوامل البنيوية التي تدفع هذا الاتجاه، مثل ارتفاع تكلفة التمويل وتراجع العائد على رأس المال.
من ناحية أخرى، يتعين على حكومة الصين أن تواصل تشجيع ريادة الأعمال الخاصة والإبداع (وقد التزمت بذلك بالفعل)، في حين تعمل على تعزيز نظامها التنافسي شبه الفيدرالي. كما يتعين عليها أن تعمل على التعجيل بإصلاح الحوكمة، كما وعدت، لضمان قدرتها على مواكبة المزيد من تحرير السوق.
لقد قطعت الصين شوطا طويلا على طريق الإصلاح والانفتاح. لكن لا ينبغي لها أن تستخف بالتحديات التي تنتظرها، ناهيك عن نسيان الكيفية التي تمكنت بها من قطع هذا الشوط الطويل في المقام الأول. يقول المثل الصيني: «في رحلة المائة ميل، إذا مشيت تسعين ميلا، فإنك لا تزال عند منتصف الطريق».

عميد مدرسة الاقتصاد في جامعة فودان، ومدير مركز الصين للدراسات الاقتصادية (مركز أبحاث يتخذ من شنغهاي مقرا له).