معركة صحار وبكاء الخليفة العباسي هارون الرشيد

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٢/أغسطس/٢٠١٩ ١٣:٤٠ م
معركة صحار وبكاء الخليفة العباسي هارون الرشيد

نصر البوسعيدي

خيم الحزن في أنحاء بغداد، وأصبح العويل يُسمع صوته بين جنبات قصر الخليفة العباسي هارون الرشيد بعدما وصلتهم أخبار كارثة معركة صحار!

حينما أستطاع أهل عُمان من عزل حاكمهم الذي أساء السيرة واسمه محمد بن أبي عفان الذي تم مبايعته بالإمامة ليحكم البلاد بعد استشهاد الإمام الجلندى بن مسعود على يد جيوش الخليفة العباسي السفاح، انتخب العمانيون حاكمهم الوارث بن كعب الخروصي إماما لهم بعدما اثبت شجاعته وهو يقاوم غطرسة عسكر الإمام المعزول في نزوى حينما قدم إليها ورأى ظلمهم للمستضعفين من العامة، ليلتف حوله الأهالي في ذلك ، وتتجه الأنظار جميعها للوارث الذي تفاجئ من أن العلماء اختاروه إماما لهم وحاكما للبلاد سنة 179هـ / 797م.

لم يتوانى الإمام الوارث منذ بداية حكمه في القيام بالإصلاحات الإدارية والعسكرية والاقتصادية للدولة ليستتب الأمن بالمجتمع وبين جميع أفراده بالعدل والمساواة في ظل تعرض البلاد بشكل مستمر للأطماع الخارجية وبالأخص الهجمات الأموية والعباسية.

وجميعنا يعلم بأن آلاف الشهداء من العمانيون سقطوا للدفاع عن وطنهم في معارك كانت بعضها تحسم لصالحهم وبعضها الآخر لأعدائهم، لذا فقد كان الوارث بن كعب الخروصي يدرك تماما تلك الأخطار المحيطة به من قبل خلفاء الدولة العباسية ومنهم الخليفة هارون الرشيد الذي كان يعاصر أيام حكمه.

لقد كان هارون الرشيد يعلم تماما كأقرانه السابقين أهمية عُمان السياسية والاقتصادية للخلافة العباسية التي دانت لها جميع دول شبه الجزيرة العربية عدا عُمان، وبالتالي فإنه من غير الممكن أن يتركها الخليفة بسلام، فهيبة دولته تكمن أساسا في اتساع رقعتها ونفوذها بالأقطار الإسلامية وغيرها، فما بالكم بعُمان وهي القريبة جدا من مركز الخلافة بالعراق!

لذا فقد أنتقى الخليفة لهذه الحرب من خيرة فرسانه بقيادة ابن عمه وزوج شقيقته عيسى بن جعفر العباسي للهجوم على عُمان وحاكمها الوارث والذي كان يعتبر خصمه اللدود نتيجة عدم اعتراف العمانيين أصلا بخلافة هارون الرشيد والدولة العباسية بشكل عام حالها من حال الدولة الأموية بإستثناء الخليفة عمر بن عبدالعزيز، نتيجة اغتصاب السلطة والضرب بالانتخابات الديمقراطية عرض الحائط، هذه الديمقراطية التي حملها العمانيون كمنهج لهم ساروا به ودافعوا عنه من أجل الأمة الإسلامية وتحملوا بسببها العواقب والحروب السافرة التي سفكت دماء الكثير من الأبرياء بمنطق الأمويين والعباسيين الذين ينظرون لعمان بنظرة التمرد الذي يجب أن يقضى عليه.

وفي واقع الحال والكثير يدرك بأنه لم يكن تمردا بقدر ما كان نورا ونبراسا للدمقراطية أراده أهل عُمان أن يبقى ثابتا وراسخا للأمة الإسلامية والعربية بشكل خاص دون أن ينتهك اتباعا لنهج الخلفاء الراشدين.

وعطفا على ما سبق أتضحت في بغداد معالم الجيش وأصبحت طبول الحرب تقرع للهجوم على عُمان، ولأن العراق فيها الكثير من العمانيين كأحفاد المهلب بن أبي صفره الذين أصبحوا ولاة للدولة العباسية في أواسط آسيا وتونس ومصر والخ لكفاءتهم وسيرة هذه العائلة في الفتوحات الإسلامية منذ عصر الدولة الأموية، ومنهمداود بن يزيد بن حاتم المهلبي الذي ما أن علم بهذه الحرب التي أمر بها الخليفة هارون الرشيد ضد أهله بعث بشكل عاجل وبسرية تامة برسالة للإمام الوارث بن كعب يحذره من أن الحرب وشيكة وبأن الجيش العباسي قادم لا محاله ليستعد للمواجهة الأصعب في تاريخ حياته وهو حاكم البلاد وإمامها المنتخب.

وصلت الرسالة إلى صحار المدينة التجارية الأبرز والأنشط في المنطقة بل تعتبر بوابة عُمان للتواصل مع قوافل التجارة البحرية القادمة من الخليج وبلاد فارس والهند والصين.

وما أن استلم واليها ويدعى مقارش بن محمد اليحمدي تلك الرسالة، بعث بها مباشرة إلى نزوى مقر إقامة الإمام، ومباشرة بدأ العمل في تجهيز الجيش العماني والتأهب لعاصفة الحرب مع هارون الرشيد وقواته الغازية، فتم تجهيز نحو ثلاثة آلاف مقاتل أرسلهم الإمام الوارث إلى صحار وجعل قيادتها لواليه مقارش اليحمدي والذي بدوره كان على أهبة الاستعداد لملاقاة العباسيين وعلى رأسهم عيسى بن جعفر بالإضافة إلى تحرك الإمام من نزوى برفقة أتباعه للمشاركة في الحرب.

انطلقت أساطيل الجيش العباسي من ميناء البصرة وتوجهت في البداية لمدن شمال عُمان التي هاجموها مرتكبين أبشع المجازر بحق الأهالي متقدمين بعد إسقاطها نحو صحار وغيرها من المدن العمانية المهمة بجيش يقارب الستة آلاف مقاتل، وبالقرب من صحار كان لهم العمانيون بالمرصاد، وحدث الصدام الدموي بين الجيشين واستطاع القائد العماني مقارش ومن معه القضاء على الجيش العباسي وإلحاق الهزيمة المدوية به، ليهرب من تبقى نحو سفنهم والانسحاب برفقة قائدهم عيسى بن جعفر الذي ظن بأنه وبعد تلك الدماء التي سفكها سينفذ من جريمته ويعود سالما لقصر الخلافة ببغداد، ولكن خاب توقعه لأن بعض العمانيون ويتقدمهم القائد أبو حميد بن فلج الحداني السلوتي، وعمرو بن عمر قاموا بملاحقته وملاحقة فلول جيشه في البحر من خلال ثلاثة سفن حتى تم محاصرتهم والقضاء عليهم.

أما قائدهم عيسى بن جعفر فقد وقع تحت الأسر بعدما استطاع أبو حميد من مبارزته والإطاحة به وسلب سيفه وتقيده وإرجاعه إلى صحار ليتم سجنه في حصنها انتظارا لأوامر الإمام وما سيقرره.

وما أن وصلت تباشير النصر للإمام الوارث وهو في طريقه نحو صحار للمشاركة في نجدة جيشه، قفل راجعا إلى نزوى ليجمع كبار مستشاريه وعلماء البلاد يستشيرهم في أمر القائد العباسي عيسى بن جعفر ، فتقدم أحد كبار الفقهاء واسمه الشيخ علي بن عزرة وقال للإمام :" إن قتلته فواسع لك ، وإن تركته فواسع لك " .

وكعادة حكام عُمان فإنهم من أكثر الحكام العرب عفوا عند المقدرة، ليصدر الإمام أمره بعدم قتل ابن جعفر والإبقاء عليه سجينا لفترة من الزمن، ولكن هذا الرأي حينما وصل لصحار رفضه العديد لفقدهم الكثير من أحبتهم جراء هذه الحرب التي قادها عيسى بن جعفر، لذا فقد كان هناك انقسام اتجاه أمر الإمام وقد عزز هذا الانقسام مجموعة من الفقهاء الذين كانوا يطالبون بضرورة تطبيق القصاص وقتل عيسى بن جعفر، مما أسفر ذلك عن مخالفة أمر الإمام من قبل أحد قادة الجيش العماني واسمه يحيى بن عبدالعزيز والذي اقتحم السجن وقتل عيسى بن جعفر انتقاما لمقتل الكثير من الأبرياء.

غضب الإمام الوارث بن كعب حينما علم بالحادثة وأراد بذلك معاقبة مرتكبها، ولكن العديد من الفقهاء والعلماء كانوا متعاطفين مع ابن عبدالعزيز لاتفاقهم بأن عيسى بن جعفر نال القصاص العادل وبأن من قتله لا يلام لجرائمه التي سفك فيها الدماء بغيا، وكان أكثر الداعمين لذلك الشيخ والفقيه بشير بن المنذر والذي أفتى بقوله :" قاتل عيسى ابن جعفر لم تمسه النار " ..

وفي كل الأحوال لم تذكر المصادر التاريخية تحديدا ما فعله الإمام بيحيى بن عبدالعزيز، وكل ما نعلمه أن ما حدث للجيش العباسي في معركة صحار قد أفجع الخليفة هارون الرشيد بل أجزم بأن مقتل ابن عمه المقرب جدا منه وقائد جيوشه قد أبكاه للحد الذي غضب فيه غضبا شديدا ليأمر جيوشه لمهاجمة عُمان مرة أخرى من أجل الانتقام واحتلال البلاد وقطع رأس حاكمها، ولكن مشيئة الله قد سبقت بوفاة هارون الرشيد قبل أن يخرج الجيش من بغداد، ليتوقف كل شيء بموته، وكأن قضاء الله قد جنب أهل عُمان من شر الحرب ومرارة الفقد فيها وهم يدافعون بشراسة وبطولة عن بلادهم وكرامتهم ومبدأ الديمقراطية التي يؤمنون بها.

الجدير بالذكر أن عُمان في عهد الإمام الخروصي عاشت في سلام وأمان بعد هذه الحادثة حتى كتب الله لهذا الحاكم الشهم أن يفقد حياته وهو ينقذ السجناء من فيضان الوادي بالقرب من قلعة نزوى لشعوره بعظم المسؤولية اتجاه شعبه حتى وإن كان بعضهم مدان بعدة جرائم، بل هو الحاكم العربي الوحيد الذي فقد حياته من أجل إنقاذ سجنائه، ولا غرابة في ذلك فنحن نتحدث هنا عن عدالة الإمام الوارث بن كعب الخروصي قاهر جيوش الخليفة هارون الرشيد.

المراجع :
1 – الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين 1783- 1874م ج2 ،تأليف حميد بن رزيق بن بخيت النخلي العماني، تحقيق أ.د محمد حبيب صالح – د. محمود بن مبارك السليمي، الطبعة السادسة 2016م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.

2 – تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان ج1-ج2، تأليف الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، الناشر مكتبة نور الدين السالمي –السيب – الحيل الجنوبية – 2000م.

3 – عُمان عبر التاريخ ج1-ج2، تأليف الشيخ سالم بن حمود بن شامس السيابي، الطبعة الخامسة 2014م، وزارة التراث والثقافة –سلطنة عُمان.