عشق الروح

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٢٥/أغسطس/٢٠١٩ ١٣:١٧ م
عشق الروح

أحمد المرشد

لم تنته قصصنا بحكايات الحب الضائع بين عيون حبيبة عبد الحليم حافظ والقد المياس لمعشوقة فريد الأطرش وجمالها الفاتن، فقصص حب الفنانين والفنانات والمطربين والمطربات لم تكتب لها نهايات سعيدة كما كتبوا هم لنا في أغانيهم وأفلامهم، فهذا العالم الملئ بالشجن والعواطف الذي جسد لنا قصص حب وغرام خالدة لم ينعم هو بها أو على الأقل بمشاهد ما قبل نزول تتر نهاية الأفلام حيث نجد حلولا لكافة العثرات التي مر بها أبطال العمل الدرامي لتكون النهاية كما ذكرنا سعيدة ومبهجة.

وعلى عكس نهايات الأفلام السعيدة، يأتي فيلم «غزل البنات» بطولة نجيب الريحاني (الأستاذ حمام) وليلى مراد (ليلى)، فالبطل كبير في السن ولكنه وقع في حب فتاة صغيرة، ولم يكن عامل السن فقط هو المانع لإعلان حبه للفتاة التي أحبها، فهناك أيضا الفارق الكبير في المستوى الاجتماعي، فهو مجرد مدرس لغة عربية بائس يقوم بالتدريس لها بعد موافقة جدها الباشا الذي أعجب به بعد حوار سابق كاد يطرده نهائيا من قصره بسبب «طول لسانه» وعدم تقديره مع من يتحدث، فالريحاني تحدث مع الباشا وكان يعتقد أنه أحد العاملين بالقصر ولم يكتشف أنه نفسه صاحب القصر إلا بعد حوار ساخر بين الإثنين. وبعد فترة من التعامل بين الريحاني وليلى مراد وقع في حبها وعرفت هي بأنوثتها أن مدرسها واقع في غرامها فلعبت على هذا الوتر وأوعزت له بأنه رجل تتمناه كل فتاة في سنها وأن هذا الفارق العمري والمادي لا ولن يؤثر في علاقة الحب، فتمادى هو في حبه حتى أوقعته في مشكلات عديدة وعرف فيما بعد أن هذه البنت تعبث بقلبه وتستغله للاقتراب من حبيبها الذي نكتشف لاحقا أنه إنسان شرير لا يريد سوى استغلال ثروة الفتاة، وهنا يقع الأستاذ حمام في مأزق فهو اكتشف حقيقة هذا الحبيب الشرير..ثم تتوالى الأحداث حتى يظهر بطل آخر هو النجم أنور وجدي في الأحداث لينقذ الفتاة من براثن الإنسان الوقح الذي توهمت أنه يبادلها حبا بحب، وتتوالى المشاهد حتى يقع الجميع في مأزق وتضطر ليلى مراد والريحاني للاختباء من الطيار للهرب من ملاحقته لهما في قصر قريب، ليكتشفا أن يوسف وهبي – ظهر بشخصيته الحقيقية في الفيلم كفنان شهير - هو صاحب هذا القصر، وهو الذي اكتشف مدى عشق الأستاذ حمام الرجل المسن للفتاة ليلى التي تتلاعب بقلبه فما كان منه سوى أن دعاهما للاستماع لمحمد عبد الوهاب وهو يغني أغنية «عشق الروح» التي يظن أي مشاهد للفيلم للمرة الأولى أن هذه المقطع – أي مقطع الأغنية – دخيل على أحداث الفيلم وبالإمكان إلغائه من المشاهد ولن يؤثر على تسلسلها والسياق الدرامي.

عبقرية فيلم «غزل البنات» تكمن في أداء الريحاني، هذا الإنسان الذي وقع فى حب ليلي الفتاة الجميلة، الدلوعة التي تعبث وتلعب بقلوب الآخرين، ومع الحب الكبير الذي شعر به الريحاني حيال ليلى العابثة به وبسنه كان روعة الأداء حيث جسد مشاعر ملتهبة ومتناقضة في نفس الوقت، مشاهد مثيرة ومعقدة رغم بساطتها ويصل الأستاذ حمام إلى ذروة الأداء بعيونه الذي يعبر بها عن حبه وغرامه..مشاعر إنسانية عظيمة وهو يبكي عندما يستمع إلى «عشق الروح» وبجانبه الفتاة التي ظن أنها تحبه كما أحبها، ليتمادى بمشاعره وحواسه مع كلمات ومعاني الأغنية ليقرر بينه وبين نفسه أن يعشق روح الفتاة وليس الجسد، ويتجلى معنى وجود الأغنية في السياق الدرامي للفيلم أكثر بغناء عبد الوهاب «كل ده وأنت مش داري ياناسيني وأنا جنبك ولقيتك في السما عالي وأنا في الأرض مش طايلكحضنت الشكوى في قلبي وفطمت الروح على بابك».. بينما يقف الريحاني فعلا بجوار ليلى مراد، ولا يحتاج المخرج لشرح، فمشهد بكاء الريحاني يتزامن من كلمات عبد الوهاب.. هذه اللحظة التي بكي فيها الرجل المسكين هزت قلوب المشاهد بل فطرتها في حين لم تهتز مشاعر الفتاة التي أحرقت قلبه بحبها، فهكذا هي حياة البعض يحب وينفطر قلبه في حين المحبوب لايشعر بذلك ويظل بعيدا عن الحبيب بل يفكر في غيره.
ومن هنا كانت عبقرية أغنية «عشق الروح»، فهي بمثابة ترجمة فورية لمشاعر الرجل المكبوتة بينما عبرت الكلمات عن عين الرجل التي تبكي وقلبه يحترق شوقا للإنسانة التي تقف بجواره وهي عابثة به حتى يأتي دور يوسف وهبي وهنا يضطر إلى إفاقة الريحاني إلى حقيقة وضعه ويحاول أن يعيده لصوابه. حتى البطلة هنا لم تكترث بالحقيقة عندما أبلغها يوسف وهبي في الإطار الدرامي للفيلم وسياقه العام بأن الأستاذ حمام يحبها، وجاء حواره لليلى مراد كالتالي : «افرضي يا ليلى هانم أن الأستاذ حمام ييحبك وإنتي بتحبيه‏»، لتفاجئنا ليلى مراد برد قاس وهو ما جاء في المشهد أيضا:»هو أنا اتهبلت في عقلي أحب واحد زي ده‏»، لتنفجر الدماء في وجه الأستاذ حمام فيردد مناجيا أو معاتبا نفسه‏:‏ «أيوه أنا اتهبلت في عقلي‏»..وينتهي المشهد برحيل الأستاذ حمام عن الكادر وهو يخفي دموعه بمنديله‏، بينما يصر يوسف وهبي على موقفه.
تحشرجت الكلمات في فم الأستاذ حمام ولم يستطع البوح بكلمة ولكن انهمرت دموعه لتفصح لنا عن شكواه ولوعته: « ليه ليه يا عين ليلي طال ليه ليه يا عين دمعي ساليا عيوني حبايبي ليه هجروني ليه يناموا وانتي تصحي يا عيوني ليه ليهيا ليلي عيني اشتكت من طول سهادي ياليلوكف إيدي اتملت من دمع عينى ياليل».
يخرج العاشق المصدوم في حبه من المشهد حزينا كسيرا ليختبئ خلف أنينه الشجي ولا تزال معشوقته التي رسمها بعيونه غائبة عنه، ولكنه لم يكن نادما على حبه رغم لوعته في غرامه:»وكم من فجر صحيته وصحاني على عهوديوحتى العين في غفلتها بتصحي دموعها في خدوديتسبح في الفضى شاغل شغلني عن حطب عودي وهبت وجودي علشانه وعمري ما عشت لوجودي».
ثم يعود العاشق إلى حسرته في ضياع حبه ولياليه التي أضاعها هيامه في إنسانة لم تكن تحبه :»ليه ليه يا عين ليلي طال ليه ليه يا عين دمعي ساليا عيوني حبايبي ليه هجروني ليه يناموا وانتي تصحي يا عيوني ليه ليه».

إنها أغنية «عشق الروح» التي يعتقد البعض أنها مقحمة على العمل الدرامي ولم تكن سوى للتسلية في الفيلم وإغراء جمهور عبد الوهاب وقتها لمشاهدته في السينما، ولكن واقع الحال لا يشير لذلك البتة، فالأغنية لم تكن سوى خلفية معبرة عن حال عاشق ولهان كمن يعيش على الأرض بينما حبيبه في السماء عالي ولا يطاله.

كاتب بحريني