لا تلوموا الاقتصاد، بل السياسة العامة

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٨/سبتمبر/٢٠١٩ ١٥:٥٨ م
لا تلوموا الاقتصاد، بل السياسة العامة

ريكاردو هوسمان

بات من المعتاد الآن إلقاء اللوم على علوم الاقتصاد وخبراء الاقتصاد عن العديد من أمراض العالم وعلله. ويعتبر المنتقدون النظريات الاقتصادية مسؤولة عن اتساع فجوة التفاوت، وندرة الوظائف الجيدة، والهشاشة المالية، وانخفاض النمو، بين أمور أخرى. ولكن برغم أن الانتقادات ربما تحفز أهل الاقتصاد وتحملهم على بذل قدر أعظم من الجهد، فإن الهجمة المركزة ضد المهنة عملت دون قصد على تحويل الانتباه بعيدا عن ذلك الفرع من المعرفة الذي ينبغي له أن يتحمل قدرا أعظم من اللوم: السياسة العامة.

الواقع أن الارتباط وثيق بين الاقتصاد والسياسة العامة، لكنهما ليسا نفس الشيء، ولا ينبغي لنا أن نعتبرهما كذلك. تمثل علوم الاقتصاد للسياسة العامة ما تمثله الفيزياء للهندسة، أو البيولوجيا للطب. وفي حين تشكل الفيزياء عنصرا أساسيا في تصميم الصواريخ التي يمكنها استخدام الطاقة لتحدي الجاذبية، فإن إسحاق نيوتن لم يكن مسؤولا عن كارثة مكوك الفضاء تشالنجر، ولم تكن الكيمياء الحيوية مسؤولة عن وفاة مايكل جاكسون.

تجيب علوم الفيزياء والبيولوجيا والاقتصاد على أسئلة حول طبيعة العالم الذي نسكنه، فتولد ما يسميه المؤرخ الاقتصادي جويل موكير من جامعة نورث ويسترن معرفة اقتراحية. من ناحية أخرى، تجيب الهندسة والطب والسياسة العامة على تساؤلات حول كيفية تغيير العالم على النحو الذي يؤدي إلى ما يطلق عليه موكير مصطلح «المعرفة التقادمية».
ورغم أن كليات الهندسة تدرس الفيزياء وكليات الطب تعلم البيولوجي، فإن هذه التخصصات المهنية نمت منفصلة عن علومها الأساسية في العديد من النواحي. ومن خلال تطوير معايير التميز، والمناهج، والمجلات، والمسارات المهنية الخاصة بها، أصبحت علوم مثل الهندسة والطب أنواعا متميزة.
على النقيض من هذا، لم تخضع مدارس السياسة العامة لتحول مماثل. وكثير منها لا توظف أعضاء هيئة التدريس العاملين لديها، بل تستخدم بدلا من ذلك أساتذة في مجال العلوم الأساسية مثل الاقتصاد، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، أو العلوم السياسية. وتتمتع كلية السياسة العامة في جامعتي هارفارد بمجموعة ضخمة من أعضاء هيئة التدريس ــ لكنها تقوم في الغالب بتوظيف حاملي شهادات الدكتوراه في العلوم الأساسية، وترقيهم على أساس منشوراتهم في المجلات الرائدة في هذه العلوم، وليس في السياسة العامة.
إن اكتساب الخبرة في مجال السياسة العامة قبل تولي منصب مهني أمر نادر ولا يلقى التشجيع. وحتى أعضاء هيئة التدريس الذين يشغلون مناصب ثابتة درايتهم بالعالم محدودة بدرجة مذهلة، بسبب ممارسات التوظيف السائدة والخوف من أن تنطوي المشاركة خارجيا على مخاطر تتعلق بسمعة الجامعة. وللتعويض عن هذا، تستأجر مدارس السياسة العامة أساتذة ممارسين، مثلي، والذي اكتسبوا خبرة مسبقة في مجال السياسة في مكان آخر.
من الناحية التعليمية، قد يتصور المرء أن مدارس السياسة العامة قد تتبنى نهجا مماثلا لذلك الذي تعتمده مدارس الطب. ففي نهاية المطاف، يُستَدعى المتخصصون في الطب والسياسة العامة لحل مشكلات وهم يحتاجون إلى تشخيص أسباب المشاكل. وهم يحتاجون أيضا إلى فهم مجموعة من الحلول الممكنة والتعرف على الإيجابيات والسلبيات لكل منها. وأخيرا، يتعين عليهم أن يعرفوا كيفية تنفيذ حلولهم المقترحة وتقييم مدى نجاحها.
مع ذلك، تقدم أغلب مدارس السياسة العامة برامج ماجستير لمدة سنة واحدة أو اثنتين، ولديها برامج صغيرة للدكتوراه في ظل بنية مماثلة عادة لتلك في العلوم. والمقارنة هنا ليست لصالحها في مقابل الطريقة التي تدرب بها مدارس الطب الأطباء وتدعم فرعهم المعرفي.
تقبل مدارس الطب (على الأقل في الولايات المتحدة) الطلاب بعد الانتهاء من برنامج الكلية الذي يمتد لأربع سنوات حيث يتلقون الحد الأدنى من المقررات ذات الصِلة. ثم يخضع طلاب الطب لبرنامج يمتد لعامين من التدريس في الصف غالبا، ثم يعقب ذلك عامان حيث يتناوبون على أقسام مختلفة في ما يسمى المستشفيات التعليمية، حيث يتعلمون كيفية إتمام العمل على النحو اللائق في الممارسة العملية من خلال مرافقة أطباء عاملين (أو كبار) وفرقهم.
في نهاية السنوات الأربع، يحصل الأطباء الشباب على الدبلوم. ولكن يتعين عليهم أن يباشروا بعد ذلك فترة التخصص التي تدوم من ثلاث إلى تسع سنوات (تبعا للتخصص) في مستشفى تعليمي، حيث يرافقون كبار الأطباء لكنهم يتحملون مسؤوليات متزايدة. وبعد سبعة أعوام إلى ثلاثة عشر عاما من الدراسات العليا، يُسمَح لهم أخيرا بالممارسة كأطباء دون إشراف، وإن كان بعضهم يلتحقون بزمالات إضافية تحت الإشراف في مجالات متخصصة.
على النقيض من هذا، تتوقف مدارس السياسة العامة في الأساس عن تعليم الطلاب بعد أول عامين لهم من التعليم في الصف غالبا، وهي لا تقدم لهم (باستثناء برامج الدكتوراه) السنوات الإضافية الكثيرة من التدريب التي تقدمها مدارس الطب. ومع ذلك، قد يكون نموذج المستشفى التعليمي فعّالا في السياسة العامة أيضا.
لنتأمل هنا، على سبيل المثال، نموذج مختبر النمو في جامعة هارفارد، الذي أسسته شخصيا في عام 2006 بعد مشاركتين سياسيتين ناجحتين للغاية في السلفادور وجنوب أفريقيا. منذ ذلك الحين، عملنا على أكثر من ثلاثين دولة ومنطقة. في بعض النواحي، يبدو المختبر أشبه بمستشفى تعليمي وبحثي. علاوة على ذلك، نحن نقوم بتوظيف حاملي درجة الدكتوراه من الخريجين حديثا (ما يعادل طلبة الطب المتخرجين حديثا)، وخريجي برامج الماجستير (مثل طلبة الطب بعد أول عامين في المدرسة). كما نوظف خريجين جامعيين كمساعدين بحث، أو «ممرضين».
في معالجة مشاكل «مرضانا»، يعكف المختبر على تطوير أدوات تشخيصية جديدة لتحديد طبيعة القيود التي يواجهونها والأساليب العلاجية اللازمة للتغلب عليها. ونحن نعمل جنبا إلى جنب مع الحكومات لتنفيذ التغييرات المقترحة. وهذا في الواقع حيث نتلقى أكبر قدر من التعلم. وعلى هذا النحو، نضمن أن النظرية قادرة على إرشاد الممارسة، وأن الرؤى والأفكار المستفادة من الممارسة تساعد في إرشاد وتوجيه أبحاثنا في المستقبل.
تميل الحكومات إلى الثقة في المختبر، لأننا لا نسعى إلى تحقيق الربح، لكننا نرغب بدلا من ذلك في التعلم مع الحكومات من خلال مساعدتها في حل مشكلاتها. ويبقى «طلابنا المقيمون» معنا من ثلاث إلى تسع سنوات، كما هي الحال في كلية الطب، وهم يشغلون غالبا مناصب عليا في حكومات بلدانهم بعد أن يتركونا. وبدلا من استخدام خبراتنا المكتسبة لإنشاء «ملكية فكرية»، فإننا نَـهَب هذه الخبرات من خلال المنشورات، والأدوات عبر الإنترنت، والدورات التدريبة. والمكافأة التي ننتظرها هي أن يتبنى آخرون طرائقنا.
لم يجر التخطيط لهذه البنية مسبقا: بل نشأت عفويا. ولم تدفعنا إليها أي قيادة سياسية عليا، بل سُمِح لها بالتطور ببساطة. ولكن إذا جرى تبني فكرة «المستشفيات التعليمية»، فقد تعمل على إحداث تغيير جذري في طريقة تطوير السياسة العامة، وتدريسها، وتوظيفها في خدمة العالم. وربما يكف الناس آنذاك عن إلقاء اللوم على أهل الاقتصاد عن أشياء ما كان يجب أن يتولوا المسؤولية عنها في المقام الأول.

وزير التخطيط الأسبق في فنزويلا