بصمة ترمب على السياسة الأمريكية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١١/سبتمبر/٢٠١٩ ١٢:٣٧ م
بصمة ترمب على السياسة الأمريكية

جوزيف س. ناي

كان سلوك الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في اجتماع قمة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى الأخير في بياريتز موضع انتقاد العديد من المراقبين لكونه طائشا وهَدَّاما. وزعم آخرون أن الصحافة والمنتقدون يولون اهتماما أكبر مما ينبغي لغرائب ترمب الشخصية، وتغريداته، وألعابه السياسية. وهم يزعمون أن المؤرخين في الأمد البعيد سوف يعتبرون كل هذا مجرد هفوات أو زلات. السؤال الأكبر هو ما إذا كانت رئاسة دونالد ترمب تثبت كونها نقطة تحول رئيسية في السياسة الخارجية الأمريكية، أو أنها مجرد لمحة تاريخية صغرى.

الواقع أن الجدال الدائر حاليا حول ترمب يعيد إلى الأذهان سؤالا ظل مطروحا لفترة طويلة: هل تكون النتائج التاريخية الكبرى نتاجا لاختيارات بشرية أو أنها إلى حد كبير نتيجة لعوامل بنيوية قاهرة تنتجها قوى اقتصادية وسياسية خارجة عن إرادتنا؟

يشبه بعض المحللين تدفق التاريخ بنهر مندفع، يتشكل مساره بفِعل المناخ، ومعدل هطول الأمطار، والجيولوجيا، والطوبوغرافيا، وليس بفعل أي شيء يحمله النهر. ولكن حتى لو كان الأمر كذلك، فإن العوامل البشرية ليست مجرد نمل يتشبث بقطعة من حطب يجرفها التيار. بل هي أقرب إلى ركاب طوف يحاولون في مياه هائجة توجيه الطوف وتجنب الصخور،

ومن حين إلى آخر ينقلب الطوف وفي أحيان أخرى ينجحون في توجيه الطوف إلى المقصد المرغوب.
قد يساعد فهم اختيارات القادة وإخفاقاتهم في السياسة الخارجية الأمريكية خلال القرن الفائت في تجهيزنا على نحو أفضل للتعامل مع التساؤلات التي نواجهها اليوم حول رئاسة ترمب. يعتقد القادة في كل عصر أنهم يتعاملون مع قوى تغيير فريدة، لكن الطبيعة البشرية تظل قائمة. وقد تكون الاختيارات مهمة؛ وربما لا تقل أفعال الإهمال أو التقاعس تبعية عن الأفعال المرتكبة.

فقد ساهم تقاعس القادة الأمريكيين عن العمل في ثلاثينيات القرن العشرين في إشعال جحيم مستعر على الأرض؛ وكذا كانت نتيجة رفض الرؤساء الأمريكيين استخدام الأسلحة النووية عندما كانت الولايات المتحدة تحتكرها.
تُرى هل أملت المواقف أو الأشخاص هذه الاختيارات؟ قبل قرن واحد من الزمن، كسر وودرو ويلسون التقليد المتبع وأرسل قوات أمريكية للقتال في أوروبا، لكن هذا ربما كان ليحدث على أية حال تحت قيادة زعيم آخر (ولنقل تيودور روزفلت). كان الفارق الكبير الذي أحدثه ويلسون متمثلا في النبرة الأخلاقية التي برر بها قراره، ومن ناحية أخرى على نحو سلبي هَدَّام، في إصراره العنيد على مبدأ الكل أو لا شيء للمشاركة في عصبة الأمم. يرى بعض المراقبين أن أخلاقية ويلسون كانت مسؤولة عن شدة عودة أميركا إلى الانعزالية في ثلاثينيات القرن العشرين.

كان فرانكلين د. روزفلت غير قادر على إشراك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية حتى واقعة بيرل هاربور، وربما كانت هذه الواقعة لتحدث حتى في ظل الانعزالية المحافِظة. ومع ذلك، كان تأطير روزفلت للتهديد الذي فرضه هتلر، واستعداداته لمواجهة ذلك التهديد، من العوامل الحاسمة التي دفعت أميركا إلى المشاركة في الحرب في أوروبا.

بعد الحرب العالمية الثانية، عملت البنية الثنائية القطبية التي تألفت من قوتين عظميين على تحديد إطار الحرب الباردة. ولكن ربما كان أسلوب وتوقيت الرد الأمريكي ليختلفان لو أصبح هنري والاس (الذي تخلص منه فرانكلين د. روزفلت كنائب للرئيس في عام 1944)، رئيسا بدلا من هاري ترومان. وبعد انتخابات 1952، كانت رئاسة الرجل الانعزالي روبرت تافت أو رئاسة الرجل الحازم دوجلاس ماك آرثر لتعكر صفو التوطيد السلس نسبيا لسياسة الاحتواء التي انتهجها ترومان، التي أدارها خَلَف الأخير دوايت د. أيزنهاور.

كان موقف جون ف. كينيدي حاسما في تجنب الحرب النووية أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، ثم التوقيع على أول اتفاقية للحد من الأسلحة النووية. لكنه أغرق هو وليندون ب. جونسون البلاد في مغامرة حرب فيتنام الفاشلة وغير الضرورية والمكلفة. وفي نهاية القرن، تسببت قوى بنيوية في تآكل الاتحاد السوفييتي، وعمل ميخائيل جورباتشوف على التعجيل بتوقيت الانهيار السوفييتي. ولكن كان الحشد الدفاعي في عهد رونالد ريجان، ومهاراته التفاوضية، فضلا عن براعة جورج بوش الآب في إدارة الأزمات، من العوامل التي لعبت دورا بالغ الأهمية في إنهاء الحرب الباردة سلميا.

بعبارة أخرى، يشكل القادة ومهاراتهم أهمية واضحة. وهو خبر غير سار إلى حد ما، لأنه يعني أن سلوك ترمب لا يمكن استبعاد عواقبه بسهولة. إذ تتمثل الكارثة الأكبر من تغريداته على موقع تويتر في إصراره على إضعاف المؤسسات، والتحالفات، وقوة الجذب الناعمة التي تتمتع بها أميركا، والتي تظهر استطلاعات الرأي أنها انحدرت في عهد ترمب. فهو أول رئيس منذ سبعين عاما يدير ظهره للنظام الدولي الليبرالي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. مؤخرا، أعرب الجنرال جيمس ماتيس، الذي استقال بعد توليه منصب وزير الدفاع الأول في عهد ترمب، عن أسفه الشديد إزاء إهمال الرئيس للتحالفات.

يحتاج الرؤساء إلى استخدام كل من القوة الصارمة والقوة الناعمة، والجمع بينهما على نحو يتسم بالتكامل وليس التضارب. صحيح أن المهارات الميكيافيلية والتنظيمية تشكل ضرورة أساسية، لكن هذه هي أيضا حال الذكاء العاطفي، الذي ينتج مهارات الوعي الذاتي وضبط النفس، والذكاء السياقي، والتي تمكن القادة من فهم البيئة المتطورة، والاستفادة من الاتجاهات، وتطبيق مهاراتهم الأخرى وفقا لذلك. ومن الواضح أن الذكاء العاطفي والذكاء السياقي ليسا بين سمات ترمب القوية.
أشار الـمُنَظِّر القيادي جوتام موكوندا إلى أن الزعماء الذين يخضعون لفلترة دقيقة من خلال عمليات سياسية راسخة يميلون إلى التصرف على نحو يمكن التنبؤ به.

ويُعَد جورج بوش الأب مثالا جيدا لهذا. لم يخضع آخرون لعملية الفلترة هذه، وعلى هذا فإن أداءهم في السلطة يتباين على نطاق واسع. كان أبراهام لينكولن مرشحا غير مفلتر نسبيا، لكنه كان واحدا من أفضل الرؤساء الأمريكيين. أما ترمب، الذي لم يخدم في منصب سياسي قَط قبل فوزه بالرئاسة والذي دخل عالم السياسة من خلفية العمل العقاري في نيويورك وتلفزيون الواقع، فقد أثبت براعته غير العادية في إتقان التعامل مع وسائط الإعلام الحديثة، متحديا الحكمة التقليدية والإبداع المعطل للنظم القائمة. ورغم أن بعض المراقبين يعتقدون أن هذا قد يؤدي إلى نتائج إيجابية، على سبيل المثال في التعامل مع الصين، فإن آخرين يتمسكون بتشككهم.

لعل الدور الذي يلعبه ترمب في التاريخ يعتمد على ما إذا كان سيعاد انتخابه. ففي الأرجح سوف تتآكل المؤسسات، والثقة، والقوة الناعمة إذا ظل في منصبه لثماني سنوات بدلا من أربع. ولكن في أي من الحالين، سيواجه خليفته عالما متغيرا، جزئيا بسبب التأثيرات المترتبة على سياسات ترمب، ولكن أيضا بسبب تحولات طارئة على قوى بنيوية كبرى في السياسة العالمية، سواء من الغرب إلى الشرق (صعود آسيا)، أو من الحكومة إلى القوى الفاعلة غير التابعة لأي دولة بعينها (التي سيعمل الذكاء السيبراني والاصطناعي على تمكينها). وكما لاحظ كارل ماركس، فنحن نصنع التاريخ، ولكن ليس في ظل ظروف من اختيارنا. وتبقى السياسة الخارجية الأمريكية بعد ترمب مسألة مفتوحة للتكهنات.

أستاذ في جامعة هارفارد، وهو مؤلف

كتاب «هل انتهى القرن الأمريكي؟»