المعركة الأخيرة في حياة ثورة العماني "يزيد ابن المهلب"

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٠/أكتوبر/٢٠١٩ ١٢:٣٠ م
المعركة الأخيرة في حياة ثورة العماني "يزيد ابن المهلب"

نصر البوسعيدي

في المشهد الأخير.. أحفاد المهلب أطفال لم يبلغوا الحلم مقيدين في بلاط الخليفة الأموي يزيد بن عبدالملك والذي أمر دون رحمة بإعدامهم .

لقد شهد التاريخ دون أي جدال ببسالة العماني أبي صفرة وولده المهلب منذ بدايات الفتح الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين، ولقد كان المهلب بن أبي صفرة الأكثر شهرة وشجاعة في ترسيخ أركان الدولة الأموية في العراق وأواسط آسيا لا سيما خرسان وأوزبكستان وما حولها من البلدان.

كما أن المهلب استطاع بقوته ومعه أبناؤه في القضاء على الخوارج الأزارقة الذين كادوا أن يسقطوا هيبة الدولة الاموية في العراق وبلاد فارس، ولم يخلص البلاد والعباد من شر هجماتهم وتطرفهم سوى هذا القائد العماني وذريته مثلما اسلفت وبالأخص ابنه المقرب يزيد الذي تمكن مثلما يقال من قتل قائد الأزارقة في المعركة الفاصلة والتي انتهت بعد سنوات من النضال من أجل ترسيخ قوة ومكانة الأمويين.

في المقابل كان الحجاج بن يوسف الثقفي والي الأمويين في العراق من أكثر الأشخاص الذين يكنون كل البغض والحسد ضد المهلب وشعبيته بين أهل البصرة وخرسان وما يتبعها، بل كان كثير الغيض من محبة وثقة الخليفة الاموي عبدالملك بن مروان، رغم محاولاته المتكررة لنسف هذه الثقة، لذا لا نستغرب بتاتا جفاءه المستمر ضد المهلب واتهامه إياه بتبديد أموال الخراج والغنائم التي حصل عليها من جراء توسعه في أواسط آسيا والتي كان خراجها هو أساس ثروة خزانة الدولة الأموية.

الصراع بين بين الطرفين استمر طويلا رغم حكمة المهلب وعدم رغبته في تصعيد الأمر مع خصمه الحجاج والذي تزوج من هند ابنة المهلب لأسباب كثيرة رغم حالة الكراهية التي تبوح بها هذه العمانية في وجهه وهي تراه يكيل كل الحقد لوالدها واخوتها.

وحينما مات المهلب أوصى قبل مماته ابنه يزيد بتولي أمور خرسان وكل المدن التي كانت تحت سلطته، ولكن الحجاج لم يتوان في الكيل بمكيالين ضد يزيد وهو يراه يحمل راية والده ويستميل الناس إليه مع الثقة التي بدأ يزرعها في قلب الخليفة الأموي الذي خلف والده وهو الوليد بن عبدالملك بن مروان، من كان يميل كل الميل نحو الحجاج الذي استطاع بعنفه المعروف تاريخيا من السيطرة على العراق بؤرة الثورة والفوضى ضد الخلافة.

استطاع الحجاج اقناع الخليفة الوليد بسوء تصرفات يزيد بن المهلب وبأنه يتصرف بأموال خرسان دون أي رادع، وواصل الحجاج إلحاحه على الخليفة حتى أعطاه الإذن بالتصرف كيفما يشاء في هذه القضية.

هنا بدأ الحجاج بوضع خطة محكمة لإلقاء القبض على يزيد وإنهاء حكمه في خرسان فاستخدم أسلوب اللطف والهدايا التي أرسلها مع موفده الخيار بن أبي سبرة المجاشعي طالبا منه القدوم للعراق، ولكن يزيد كان يخشى على نفسه من مكر الحجاج فرفض مرارا وتكرارا، ولكنه في المقابل أحسن للخيار كثيرا وظل معه قرابة الشهر معززا مكرما قبل عودته للحجاج.

حينما عاد الخيار للحجاج أخبره عكس ما رآه من كرم وجود وإخلاص ابن المهلب للدولة الأموية بل أخبره بأن يزيد تزداد قوته يوما بعد يوم وبأنه ينتظر اللحظة حتى يعلن استقلاله، وما أن سمع الحجاج بذلك أعطى للخيار ولاية عُمان كمكافأة له، وفي نفس الوقت أمر يزيد بن المهلب بأن يأتيه فورا بعدما عزله عن خرسان وولى بدلا عنه أخيه المفضل بن المهلب وإلا سيستخدم القوة لذلك.

وبعد عدة مشاورات ترك يزيد خرسان وذهب فعلا للعراق من أجل الوصول إلى تسوية مع الحجاج، وما أن وصلوا هو وأصحابه، أمر الحجاج بتقييدهم والزج بهم في السجن وتعذيبهم وتغريمهم الكثير من الأموال، مما تسبب ذلك بغضب شقيقته هند التي هددت زوجها الحجاج بالقتل إن لم يفرج عن أخيها، فخشي منها وطلقها.

واستطاع يزيد بن المهلب أن يدبر مكيدة ليهرب من السجن، وأعتقد بأنه استطاع رشوة الحراس حتى تم هروبه فذهب مباشرة لاجئا إلى فلسطين مع سليمان بن عبدالملك شقيق الخليفة، والذي كان صديقا وفيا ليزيد فأعطاه الأمان وتوسط لدى أخيه بأن يتركهم وشأنهم مع تكفله بدفع كافة المطالبات المالية.

وحينما مات الحجاج بن يوسف الثقفي، ولحقه الخليفة الوليد الذي خلفه أخوه سليمان من أعطى كل الثقة والمكانة والمهابة لهذا العماني وأعاده للحكم وجعل له ولاية العراق وخرسان وشأن عُمان، وما أن استلم يزيد مكانته حتى أرسل قادته لعمان ليلقوا القبض على من خانه وهو الخيار المجاشعي فتم القاء القبض عليه وقتله بواسطة رجل يدعى مرتع، ثم أمر شقيقه زياد بحكم عُمان وفي المقابل استطاع بقيادته وحنكته التوسع في الفتوحات وولى ابنه مخلد بقيادة الجيوش وولاية خرسان وهو ابن 12 عاما فقط، واستطاع بدوره مخلد إثبات جدارته وقوته وثقة والده.

وبعد وفاة سليمان ووصول الخليفة عمر بن عبد العزيز، للحكم قام الأخير بعزل أغلب الولاة السابقين ومنهم يزيد بن المهلب، واستمر هذا الحال حتى مات الخليفة عمر وتولى بعده يزيد بن عبد الملك بن مروان والذي كان على عداء مستعر بينه وبين يزيد بن المهلب، نتيجة خلاف قديم نشب بينهم أيام ابن عبد العزيز، وقد نذر هذا الخليفة بأنه إن وصل للحكم ليقطعن ابن المهلب ويقتله شر قتلة.

حينما علم ابن المهلب بأن عدوه اللدود تولى الخلافة، قام بمحاولة استمالة الناس لصفه ناحية العراق وخرسان تمهيدا لإعلان الثورة ضد الخليفة والذي ما أن تولى الحكم حتى جهز جيوشه للقضاء على يزيد ومن معه من آل المهلب، فانطلق الجيش الأموي من الشام متجها للعراق ليلتقي الجيشان في بابل وهناك حدثت المعركة الدموية الفاصلة والتي من خلالها حدثت النكبة اتجاه هذه العائلة العمانية الثائرة، فسقط من أبناء المهلب أولا الحبيب الذي قاتل بشجاعة حتى فقد حياته، ووصلت الأخبار لشقيقه يزيد الذي شرب أكواب من المسك وأنشد قائلا:
فإن تغلِب فغلابون قِدما * وإن تُغلب فغير مُغلبينا
فما إن طِبنا جُبنٌ ولكن * منايانا ودولة آخرينا

ثم تقدم ليلتحم بالصفوف محاربا مقداما شجاعا حتى قتله القحل بن عياش الكلبي الذي مات هو الآخر بعدما اشتبكا في القتال وتمكن بعضهم من بعض، وبعد ذلك تم قطع رأسه والتأكد من جثته عن طريق إبهام رجله الملتصقة بالإصبع التي تليها وكان كل ذلك في عام 102 هـ

وما ان قُتل يزيد بن المهلب حتى تفرق جيشه ولم يبق إلا إخوته وبعض الأتباع فقاتلوا حتى تم إبادتهم ما عدا بعض أفراد العائلة وشقيقه المفضل الذي كان لا يعلم بمقتل يزيد، فأوهمه قادة الجيش الأموي بأن يزيد قد استسلم ويجب أن يتوقف هذا القتال، فأمر المفضل أصحابه بالتوقف حتى علم فيما بعد بالخدعة ومقتل يزيد وبقية اخوته فقال :
ولا خير في قتل الصناديد بالقنا * ولا في ركوب الخيل بعد يزيد

ثم تم الغدر به وقتله ومعه مدرك وزياد وعبد الملك ومروان وعمرو أبناء واحفاد المهلب بن أبي صفرة من قبل القائد الأموي مسلمة والذي لم يكتفي بذلك بل قتل كل من وقع بيده من الأسرى.

وفي الحادثة الأشد ألما لآل المهلب، حادثة الأسرى من الأطفال من لم يبلغوا سن الرشد، فحينما تم إرسالهم إلى الشام وتحديدا إلى بلاط الخليفة يزيد بن عبدالملك، مقيدين أمامه، استشار كبار قومه فيهم وبالحكم الأنسب اتجاههم، فقال مرافقه وهو العباس بن الوليد في شانهم قوله تعالى:
« وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا»
وما أن سمع الخليفة هذا الرأي أمر مباشرة بقتلهم أمامه ومنهم المهلب بن يزيد وشقيقه ومن معهم، وقبل تنفيذ الحكم قال المهلب وهو يخاطب الخليفة:
« أما والله يا يزيد ما حاكمتك إلا إلى الحكم العدل الديان بالقسط الذي لا يجوز، وقال للسياف: "امسح سيفك من الدم قبحك الله ولعن من أمرك»

فقال الخليفة :
«قاتلكم الله صغارا وكبارا ما أشجعكم» .. وأمر بقطع رؤوسهم جميعا

عُرفت هذه الحادثة اتجاه هذه العائلة العمانية بنكبة المهالبة، وقد قال الفرزدق وهو يرثي يزيد ابن المهلب:
لا حملت أنثى ولا وضعت * بعد الأغر أصيب بالعقر
ذهب الجمال من المجالس كلها * وخلا لفقدك مجلسُ القصر
كنت المنوة باسمه لملمةٍ * حدثت تُخاف وطارد الفقر
وزعيم أهل عراقنا وقريعهم * وإليك مفزعُنا لدى الذعر

بعد هذه النكبة هاجر بقية أفراد عائلة ابن المهلب إلى موطنهم عُمان ليهربوا من ملاحقة الامويين لهم حفظا لحياتهم، ومنهم هند وفاطمة ونفيسة وأبنائهن، وبالفعل خرجوا جميعهم من العراق متجهين لعمان ليقيموا فيها آمنين، وتقول المصادر التاريخية أن الخليفة في آخر أيامه قد أعطى الأمان لنساء آل المهلب ليعودن إلى العراق، وفعلا كان لهن العودة لحي الأزد بالبصرة، ليبزغ بعد زمن قصير سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب بن أبي صفره والذي ما أن بلغ سن الرشد حتى حرر البصرة من قبضة الأمويين في نهاية دولتهم وظهور الخلافة العباسية بقيادة السفاح، فجعله واليا على البصرة، ليبدأ تاريخ جديد لهذه العائلة مع الدولة العباسية التي استعانت بأحفاد أبو صفرة في حكم الكثير من الأقاليم ومنها مصر وتونس وغيرها من البلدان التي حكم فيها العمانيون من آل المهلب.

المرجع :
- الأنساب ج2، أبي المنذر سلمة بن مسلم العوتبي الصحاري، تحقيق د.محمد إحسان النص، الطبعة الخامسة 2016م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان