حرب الاغتيالات وصراع الأسرة على السلطة في عُمان

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٤/نوفمبر/٢٠١٩ ١٢:٥٨ م
حرب الاغتيالات وصراع الأسرة على السلطة في عُمان

نصر البوسعيدي

« كان أتباعه يرجونه بشدة أن يهرب وينجو بحياته، وكان رده لهم: يأبى الله أن أفر من الرجال عن القتال.. فحارب ببسالة ولكن الكثرة قتلت شجاعته ليغادر الحياة بطلقة نارية غادرة بالقرب من جزيرة قشم»..

في الوقت الذي كان فيه أبناء السيد سلطان وتحديدا سالم وسعيد يلهون ببراءتهم في حضرة عمتهم موزة ببركاء فرحين منتظرين والدهم القادم من البصرة، وبينما كان الجميع في انتظار السفينة السلطانية لترسو بسيدها، كانت المفاجأة التي اهتزت من أجلها عُمان قاطبة، فالسفينة القادمة منكسة الأعلام والحزن مخيم على جميع طاقمها والذين لم يجدوا أكثر من كلمات مبعثرة مرتبكة يخبرون بها الجميع خبر اغتيال حاكم عُمان السيد سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي سنة 1217هـ عن طريق الشويهيين بجلفار من تحالفوا مع القوات النجدية ضده.

ويقول أ.د. محمد حبيب صالح محقق تراث المؤرخ العماني ابن رزيق بأن اغتيال السيد كان مدبرا ومخططا له بعدما تم مراقبته من قبل أعدائه للتخلص منه بعدما أصبح العائق الأقوى والرادع للقوات النجدية التي حاولت كثيرا غزو عُمان، فحينما غادر سفينته ليستقل بمركب صغير ليزور جزيرة قشم وهو عائد من البصرة، قاموا بمحاصرته مباشرة ليتم اغتياله بطريقة غادرة بعدما رفض المغادرة والهرب في جنح الظلام، فحاربهم ببسالة ولكن رصاصة واحدة من طرفهم كانت كفيلة بأن تصيب رأسه ليغادر الحياة.

وقد رثاه الكثير من شعراء عُمان ومنهم القاضي المعروف بأبو الأحوال الشيخ سالم بن محمد الدرمكي الذي قال حينها:عجب جرى في ذا الزمان عجاب * أسد الأسودِ سطت عليه كلابُ .

وفي هذه الاثناء تولت السيدة موزة حكم عُمان مؤقتا بعدما نصبت نفسها الوصية والمشرفة على ابن أخيها السيد سعيد ليصبح هو السلطان الفعلي لعمان حينما يبلغ سن الرشد، فحاربت لذلك اخوتها وحافظت على مسقط من السقوط بيد المتصارعين على السلطة، وحاولت جاهدة لم شمل العائلة الحاكمة ليتفقوا معها في رهانها على أن سعيد هو الأنسب للمرحلة القادمة لإدارة شؤون عُمان، ولكنها لم توفق في اقناع اخوتها جميعهم وبالأخص شقيقها قيس ليبدأ من هنا الصراع المرير بين أفراد الاسرة الذين أدخلوا الكثير من القبائل في هذه النزاعات العائلية لنيل السلطة ومكاسبها، فمحمد بن خلفان البوسعيدي المعروف بالوكيل والذي خشي من السيد سعيد بن سلطان، خرج من مسقط نازحا إلى قريات ومنها أرسل لقيس ابن الإمام في صحار يدعوه للتحالف معه والهجوم على مسقط وانتزاعها من ابن أخيه سعيد وعمته موزة، وعاهده بدعمه بالمال والسلاح.

من جانبه أعد قيس العدة وبعث لكل أتباعه وبعض أخوته للهجوم على ابن أخيهم سعيد وانهاء حكمه، وفي المقابل بعث السيد سعيد كذلك لمناصريه من القبائل وأفراد أسرته لمواجهة عمه ومن معه.

هكذا كان الحال في بدايات الصراع بينهم، فاجتمع لقيس أكثر من 12 ألفا من الرجال وتقدم بهم من صحار متوجها لمسقط فاحتلوا الخابورة والمصنعة وبركاء والسيب بين قتال واستسلام، حتى وصلوا إلى القرم وحاولوا احتلال حلة السد ولكنهم فشلوا نتيجة المقاومة الشديدة التي وجدوها، فذهبوا لاحتلال المراخ الواقعة بين الوطية ومطرح واستطاع قيس هنا هزيمة جيوش ابن أخيه وشقيقته موزة من أمرا اتباعهما بالتراجع وحماية بوابات مدينة مسقط القديمة.

في نفس الوقت أتى سالم شقيق السيد سعيد بالمدد ومعه والي نخل الشيخ مهنا بن محمد اليعربي وأصحابه عن طريق السفينة (توكلي)، فانطلقوا من بركاء حتى ميناء مطرح واستولوا على الجبال المحيطة لإطلاق النيران اتجاه عمهم قيس وجيشه.

وخشية من سقوط المدينة بيد قيس، طلب السيد سعيد المدد من رجال الشرقية فلبوا النداء ووصلوا إلى العاصمة وانضموا تحت قيادة مهنا اليعربي واستمرت الحرب سجالا بين الطرفين.

حاول الشيخ مهنا ومعه الشيخ ماجد بن سعيد البرواني إقامة الصلح بين أفراد العائلة وتحديدا بين قيس وابن أخيه سعيد، فبعثوا برسالتهم إلى قيس وأخبروه بأن تتوقف الحرب بشرط أن تبقى له كل الحصون التي استطاع الاستيلاء عليها ويعود لصحار، ولكنه رفض ذلك، فتأزم الموقف واشتدت الحرب بينهم واستطاع قيس وأتباعه تحقيق النصر في منطقة ريام وروي مع توسع دائرة الحرب الأهلية بكل أسى بوقوع الضحايا من الأبرياء بين قتيل وجريح.

في هذه الأثناء بعثت السيدة موزة أحد أتباعها وهو علي بن فاضل ليطلب المساعدة من ابن أخيها بدر بن سيف بن الإمام المقيم في نجد فالتقوا بالقرب من قطر ومنها ركب سفينته للسفر نحو العاصمة وإنقاذ السيدة وابن أخيها، وما أن وصل إلى مسقط تم تفويضه بالأمر والقيادة، فاتخذ من حصن بركاء مركزا ينطلق من خلالها لمحاربة عمه قيس من كان ساعتها يضرب حصارا شديدا على مطرح، فجمع بدر جيشه من نخل والرستاق وبعثهم بحرا إلى مسقط التي وقع أغلب قراها بيد قوات عمه، وما أن وصل المدد حتى ثارت المعارك بين الطرفين في سوق الحلوى وسوق الحدادين وسوق البز، وبقى حصن مطرح صامدا للسيد سعيد في هذه المعارك.

وهكذا بدأت مشكلة هذه الفتنة تتسع بين المتنازعين بانجرار شيوخ القبائل نحو أفراد البيت الحاكم في حروبهم ضد بعضهم، فتارة تجد قبائل تناصر قيس ومن معه، وتارة تجد من يناصر السيد سعيد والسيدة موزة.
بعدما تأزم الموقف كثيرا حاول محمد بن خلفان الوكيل والشيخ مهنا اليعربي والي نخل إقامة الصلح بين السادة لحقن الدماء، خاصة حينما دخلت قبائل الظاهرة بقيادة حميد بن ناصر الغافري في هذا الصراع بجانب السيد سعيد، فكان أساس هذا الصلح هو تفادي اتساع دائرة الخلافات السياسية والقبلية بين أهل عُمان.

انتهى الصلح برجوع قيس إلى صحار، وبعدم دخول حميد الغافري لمسقط وانسحابه من الصراع مقابل 40 الف قرش، وفي المقابل عاد مهنا اليعربي إلى نخل ليضمن بقاءها في يده كالسابق وبقي بدر بن سيف في بركاء.
بدأت البلاد تأخذ أنفاسها لمدة شهرين كانت فيها مدن عُمان شبه مقسمة بين أطراف النزاع الذي اشرنا لهم سابقا، فقيس في صحار، ومهنا في نخل، وحميد في الظاهرة، والسيد سعيد وعمته في مسقط، وبدر في بركاء، وعاش الجميع دون قتال يذكر رغم مأساوية الوضع الذي انفجر مرة أخرى باغتيال الشيخ مهنا اليعربي في قلعته بنخل من قبل مالك بن سيف بن سلطان اليعربي طمعا في احتلال نخل، وبتحريض من السيد بدر بن سيف مثلما شاع بين الجميع.
يومها كان الشيخ مهنا يقرأ القرآن بعد صلاة الفجر وما أن وصل للآية الكريمة:
« أتى أمر الله فلا تستعجلوه» سمع هو ومن معه فوضى هجوم الانقلابيين على الحصن من قبل مالك والذي ما لبث إلا دقائق حتى هجم مع جنوده على مهنا فقتلوه بعدما اجتمعوا عليه مثلما يشير المؤرخ العماني ابن رزيق بشهادة أحد الحاضرين في الحادثة وهو مسعود بن خميس المنذري الذي كان شيخا أعمى ومعلما للقرآن وملازما للمغدور به حتى لحظاته الأخيرة.

حادثة الاغتيال هذه ضد مهنا وهو أحد أطراف الصلح أغضبت قيس خاصة حينما انتشر الخبر بأن السبب في ذلك هو ابن أخيه بدر بن سيف، لذا حرك قيس قواته وأتباعه مرة أخرى للهجوم على مسقط وتحديدا بوشر عن طريق واليه في السيب ناصر بن سعيد الحبسي المعروف بالسمار والذي نفذ الأوامر وتوسع في حربه ليسيطر على فنجا وبدبد وسمائل، وقام قيس من طرفه بقطع الطريق البحري بين المصنعة وبركاء ومسقط لتتجدد الحرب مرة أخرى، وانضمت نزوى وبهلاء وإزكي في هذه الأزمة نتيجة تحالف قيس مع شقيقه محمد حاكم هذه المدن بعدما توجه بتلك الجيوش لاحتلال سمائل وبعدها مسقط، وبالتالي اسقاط بدر بن سيف المتهم الأول بالتحريض في تفجير هذه الأوضاع.

حاصر السيد قيس مسقط التي أخذت تقاوم بقيادة ابن أخيه سالم بن سلطان وتلاحمت الجيوش في معركة دموية بوادي عدي قتل من خلالها الكثير من أتباع السيد سالم ومنهم شيخ القواسم، وشيخ بني راسب محمد بن ماجد.
بعدها تقدم قيس إلى الوادي الكبير، ومنها إلى مدينة مسقط القديمة مقر الحكم واستطاع السيطرة على أغلبها، لتعم حالة الفوضى من قتل وغدر ونهب للأسواق واستباحتها مع قبل المنتصرين لحظتها.

لم تتمالك السيدة موزة نفسها أمام كل هذه المآسي والهزائم المتتالية، فذهبت سرا إلى معسكر أخيها قيس لتقابله وتتفاوض معه للصلح والتهدئة، فقابلته لتتفاهم معه، وبعد مناشدات عديدة ليتوقف عن حرب أبناء أخيه سعيد وسالم، وافق السيد قيس أمام رجاء شقيقته للصلح على شريطة أن يترك مسقط ويُرجع جميع حصونها لهم ويعود لصحار مقابل ألف قرش يدفعونها له شهريا.

بعد أن هدأت الأوضاع مرة أخرى نتيجة هذا الصلح، واستجمع أبناء أخيه قوتهم، حشدوا الحشود مرة أخرى للقضاء على قوة عمهم قيس نتيجة خوفهم من ازدياد رقعة نفوذه وتهديده الدائم لاحتلال مسقط، وهنا حدثت إشكالية أخرى في هذه الأحداث، فبدر بن سيف بن الإمام استعان هذه المرة بقوى خارجية متمثلة ببدو نجد بقيادة ابن عبدان النجدي مقابل مبلغ من المال تم الاتفاق عليه مسبقا، وهكذا تم جمع الجيش من مدن مختلفة في عُمان وساحلها المتصالح بالإضافة إلى النجديين والقبائل التي استطاعت السيدة موزة تحريضها للمعركة الفاصلة ضد شقيقها.

وما أن علم قيس بهذه المؤامرة هاجم بجيشه مسقط ونشبت الحرب بينهم وأصبحت المدينة تحت نيران القصف والقتل والبؤس الذي عادت معاناته على البسطاء من لا ذنب لهم في كل هذه الصراعات والتي كان فيها السيد سعيد بن سلطان ببركاء، وأخوه سالم في المصنعة، والسيدة موزة في مسقط بالجلالي وابن أخيها بدر بن سيف في الميراني يحاولون الدفاع عن المدينة والصمود، فتقابل الجيشان بالقرب من مسجد محمد بن حبيب المنحي وصلوا جميعا صلاة الحرب، ليشتبكوا بعد الصلاة في معركة دامية راح ضحيتها الكثير ولكنها لم تحسم لأحد منهم.

في هذه الأثناء عاد السيد سعيد من بركاء وتعاهد مع كل حلفائه القادمين من كل مكان وبالأخص الشيخ حميد بن ناصر الغافري والشيخ محمد بن ناصر الجبري لقتال أعمامه حتى النهاية وحماية العاصمة من السقوط، وبعد عدة معارك استطاع السيد سعيد أن يحقق أول انتصاراته على المهاجمين فسيطر على السيب وبقية المدن كفنجا وبدبد وما حولها بمعارك دموية عنيفة.

تدخل العقلاء مرة أخرى من أجل الصلح بواسطة الشيخ خميس بن سالم الهاشمي والذي استطاع أن يوقف الحرب ويتمم الاتفاق للسلام بين بدر بن سيف ممثل السيد سعيد بن سلطان وبين السيد قيس واتفق الجميع على الهدنة بشريطة أن ينسحب قيس من مسقط وتصبح صحار تحت حكمه وسيطرته كالعادة، فوافق الجميع وانسحب قيس من مسقط وعاد لصحار عن طريق إحدى السفن الإنجليزية ليستقر فيها حتى وفاته.
وأما السيد سعيد وعائلته وعمتهم موزة فقد تنفسوا الصعداء بعد هذا الصلح واقترضوا من التجار مبلغ 40 ألف قرش لتوزيعه كمكافأة لحليفهم حميد بن ناصر الغافري، وشمل هذا الصلح جميع أبناء الإمام أحمد بن سعيد وكذلك محمد بن خلفان البوسعيدي الملقب مثلما أسلفت بالوكيل.

بعد مرور برهة من الزمن قويت شوكة السيد بدر بن سيف بجيشه النجدي الذي بدأ يتوافد إليه بشكل أكبر، وبدأ يستحوذ على الأمور بطريقته وخاصة في بركاء مقر سكناه بحصن النعمان، لذا وبعد فترة ليست بالقصيرة خشي منه السيد سعيد لأنه أصبح بالنسبة له يشكل أكبر خطر على مستقبله في السلطة وهو يرى تواصله المباشر مع أمراء نجد الذين كانوا على كل حال يحاولون احتلال واحة البريمي بهجماتهم المستمرة على عُمان، فخشي من تمدد هذه الهجمات بوجود حليفهم من العائلة والمدعوم بقوات منهم يحيطون به كحرسه الخاص ويده القوية في ترسيخ مكانته، حتى وصل الحال بأن يقوم جنوده بجمع المال من العمانيين كغرامة أو إتاوة ويتم ارسالها إلى أمراء نجد كنوع من اعتراف التبعية لهم، مما أثار استياء الكثير اتجاه تصرفاته، فقرر السيد سعيد وبنصيحة من السيدة موزة وهو بعمر الخمسة عشر عاما فقط من تدبير خطة لاغتياله بعدما دعاه ليجتمع به منفردا في حصن النعمان بوجبة العشاء وما هي إلا لحظات حتى انقض عليه بطعنة خنجر أردته قتيلا بين مؤيد ومعارض من الأسلوب الذي استخدمه للتخلص من أحد أقوى أفراد الأسرة الحاكمة أنذاك والذي كان حليف الأمس ضد عمهم قيس.

في كل الأحوال أصبح الأمر بعد كل هذه الصراعات للسيد سعيد بن سلطان الذي أصبح فيما بعد أشهر سلاطين عُمان عبر التاريخ ومؤسس الامبراطورية العمانية الممتدة سلطتها ما بين القارتين الآسيوية والأفريقية على السواء.

المراجع:

1 – الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين الجزء الثاني 1783 – 1874م، حميد بن رزيق بن بخيت النخلي العماني، تحقيق أ.د محمد حبيب صالح، د. محمود بن مبارك السليمي، الطبعة السادسة 2016م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.
2 – سعيد بن سلطان، تاليف رودلف سعيد – رويت، طبعة عام 1983م، وزارة التراث والثقافة – سلطنة عُمان.