بريطانيا وخيارات ما بعد الخروج

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٩/نوفمبر/٢٠١٩ ١٢:٤٦ م
بريطانيا وخيارات ما بعد الخروج

نير وودز

استهلك التفاوض على شروط خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي قدرا هائلا من الوقت والجهد والإحباط. ومع استعداد المملكة المتحدة لإجراء انتخابات برلمانية حاسمة في الثاني عشر من ديسمبر، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الخروج البريطاني ليحدث، وإذا حدث، فمتى وكيف.

لكن بافتراض أن المملكة المتحدة تركت الاتحاد الأوروبي حقا، فإن حكومتها القادمة يجب أن تبدأ العملية الطويلة والصعبة المتمثلة في التفاوض على علاقات جديدة مع بقية العالم. وسوف يشمل هذا اختيارات صعبة، وأشدها تعقيدا ما إذا كان ينبغي للمملكة المتحدة أن تعمل على مواءمة ضوابطها التنظيمية في القطاعات الاقتصادية الأساسية مع تلك المعمول بها في الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة. إلى أين تتجه بريطانيا إذا؟

يريد رئيس الوزراء بوريس جونسون أن تتوصل المملكة المتحدة إلى اتفاق للتجارة والاستثمار مع الولايات المتحدة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. تُعَد أميركا الشريك التجاري الأكبر كدولة منفردة للمملكة المتحدة فضلا عن كونها أكبر مصدر (ومقصد) لاستثماراتها المباشرة الأجنبية.
في السعي إلى مثل هذه الصفقة، يتعين على المملكة المتحدة أن تقرر إلى أي مدى ترغب في إعادة ترتيب قواعدها التنظيمية بحيث تتوافق مع تلك المعمول بها في الولايات المتحدة (كما تريد الشركات الأميركية والمستثمرون الأميركيون). والتقارب الأوثق مع الولايات المتحدة من شأنه أن يخلق حواجز جديدة أمام التجارة مع الاتحاد الأوروبي، الذي يُعَد سوقا أكبر كثيرا لصادرات المملكة المتحدة. علاوة على ذلك، بدأ احتمال تبني معايير أميركية ــ في ما يتصل بتسعير الأدوية، والبيئة، ومعايير الغذاء، ورفاهة الحيوان، على سبيل المثال ــ يخلق بالفعل ردة فعل شعبية سلبية في بريطانيا.
بينما تعكف المملكة المتحدة على الاستعداد للحياة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فقد تتصاعد التوترات التنظيمية في قطاعين مهمين آخرين.
القطاع الأول هو الخدمات المصرفية والتمويل. في عام 2018، ساهم قطاع الخدمات المالية في المملكة المتحدة بنحو 132 مليار جنيه إسترليني (170 مليار دولار أميركي) في الاقتصاد، أو 6.9 % من إجمالي الناتج، ووفر 1.1 مليون وظيفة (3.1 % من الإجمالي)، وسدد نحو 29 مليار جنيه إسترليني في هيئة ضرائب (في السنة الضريبية 2017-2018 في المملكة المتحدة). كما حقق القطاع صادرات بقيمة 60 مليار جنيه إسترليني في عام 2017 (في مقابل 15 مليار جنيه إسترليني من الواردات).
لكن قطاع الخدمات المالية يفرض مخاطر ضخمة إذا لم يخضع للتنظيم على النحو اللائق. فقد تسببت الأزمة المالية في الفترة 2007-2008 في تقليص الناتج الوطني في المملكة المتحدة بنسبة 7 %، وأزالت مليون وظيفة، ودفعت الأجور إلى الانخفاض بنحو 5 % دون مستويات 2007، وأوقفت الإقراض المصرفي. وقد استشعرت كل أجزاء المملكة المتحدة (وقسم كبير من بقية العالم) الأثر الكارثي.
بعد الأزمة، قدمت لجنة مستقلة حجة واضحة لصالح الإصلاح التنظيمي لحماية عامة البريطانيين (والمال العام) من الإقراض المصرفي المتهور. كما تقبل صناع السياسات في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الحاجة إلى ضوابط تنظيمية قوية.
غير أن أميركا وأوروبا تلاحقان اليوم أساليب متباعدة بشكل حاد. إذ تواصل الهيئات التنظيمية في الاتحاد الأوروبي تعزيز القواعد الاحترازية ومتطلبات رأس المال (وخاصة في التعامل مع البنوك البالغة الضخامة)، كما تعمل على توسيع نطاق التنظيم ليشمل كل الأصول والمهن في صناعة الخدمات المالية.
في المقابل، عكست الولايات المتحدة مسارها في عهد الرئيس دونالد ترمب، الذي شرعت إدارته في إبطال عناصر أساسية في الضوابط التنظيمية التي جرى تنفيذها بعد الأزمة المالية. فالآن تتضمن أجندة الحكومة الأميركية خفض متطلبات رأس المال، وإضعاف اختبار الإجهاد و»وصايا الحياة» الخاصة بالبنوك، والسماح بالمزيد من التداول في الملكية والمشتقات غير الخاضعة للتنظيم. وهي عازمة أيضا على تقليص تدابير حماية المستهلك والمستثمر، والحد من التنظيم الاحترازي للبنوك ذات الأهمية الجهازية، وتقويض تنظيم المؤسسات غير المصرفية ونظام الظل المصرفي، والحد من تمويل الأبحاث والرصد في القطاع المالي، واتخاذ نهج عدم التدخل في ما يتصل بفرض قوانين الأوراق المالية.
سوف يستفيد بعض المستثمرين بشكل كبير من إلغاء الضوابط التنظيمية المالية على الطريقة الأميركية في المملكة المتحدة، وسوف يستمرون في الضغط من أجل إلغائها. لكن سعيهم إلى تحقيق أرباح فوق السلامة الجهازية من شأنه أن يعرض للخطر التدابير التنظيمية التي تحققت بشق الأنفس والتي تحمي حاليا عامة الناس في المملكة المتحدة من تكرار أزمة 2007-2008. كما أنه سيلحق الضرر بمكانة مدينة لندن في قلب التمويل الأوروبي.
حتى الآن، كانت المملكة المتحدة تسلك نهجا قويا في التعامل مع التنظيم المالي، وقد عملت على تنفيذ تدابير تتجاوز تلك التي قدمتها الهيئات التنظيمية في الاتحاد الأوروبي. ويشمل هذا نظاما جديدا يهدف إلى مساءلة كبار المصرفيين عن قراراتهم، وتحصين عمليات التجزئة التي تجريها البنوك الضخمة لحماية ودائع المستهلكين من الصدمات التي تصيب النظام المالي الأوسع. ولأن عامة الناس في المملكة المتحدة يدعمون هذه التدابير على نطاق واسع، فيفترض أن تكون حكومة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي مترددة في إضعافها.
يتمثل التحدي الثاني الذي ينتظر المملكة المتحدة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي في التعامل مع شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى. في وقت سابق من هذا العام، وجد تقرير صادر عن برلمان المملكة المتحدة أن شركة فيسبوك «انتهكت عمدا وعن كامل اطلاع قوانين خصوصية البيانات وقوانين منع الممارسات المناهضة للمنافسة». ومع ذلك فإن حجم شركات التكنولوجيا الكبرى وقدرتها على الانتشار عالميا تجعل من الصعب على أي حكومة غير حكومة الولايات المتحدة أن تتمكن من تنظيمها أو التأثير عليها.
بدلا من ذلك، قاد الاتحاد الأوروبي الطريق في تكريس حق المواطن في خصوصية البيانات، من خلال اللائحة العامة لحماية البيانات. علاوة على ذلك، تبنت المفوضية الأوروبية موقفا قويا لصالح حماية المنافسة والحد من هيمنة الشركات الرقمية العملاقة على السوق. في شهر مارس، فرضت المفوضية غرامة على شركة جوجل بقيمة 1.5 مليار يورو (1.7 مليار دولار) بسبب قيامها بعرقلة منافسيها في سوق الإعلانات على الإنترنت ــ وهذه ثالث مرة تعاقب فيها الشركة على انتهاكات قوانين مكافحة الاحتكار.
مع ذلك، تدعم الحكومة الأميركية بقوة حرية انتقال البيانات (وهو ما تريده شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى)، في حين سارع ترمب في وقت سابق إلى انتقاد المفوضية لأنها غرمت شركة جوجل.
تعتمد المملكة المتحدة بشدة على شركات التكنولوجيا العالمية الكبرى، وجميعها أميركية أو صينية، ولهذا يتعين عليها أن تحاول تنظيمها. وبمجرد أن تترك الاتحاد الأوروبي، ستواجه ضرورة الاختيار بين الاستسلام للضغوط الأميركية أو إيجاد طريقة لعكس تنظيم الاتحاد الأوروبي (بما في ذلك اللائحة العامة لحماية البيانات، وإطار حماية الخصوصية للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة).
يدّعي أنصار الخروج من الاتحاد الأوروبي أن المملكة المتحدة قادرة على خلق «استراتيجية عالمية» خاصة بها وإدارة أمورها على «الطريقة البريطانية» بعد أن تترك الاتحاد الأوروبي. في عام 2016، على سبيل المثال، قالت رئيسة الوزراء آنذاك تيريزا ماي إن المملكة المتحدة بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي ستعتمد على «حلفائها الصامدين» لإنشاء بديل لنظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية جاليليو في الاتحاد الأوروبي.
لكن بعد مرور ثلاث سنوات، مع وجود ترمب في البيت الأبيض، وبعد أن أصبحت المملكة المتحدة في موقف تفاوضي أضعف كثيرا مع الاتحاد الأوروبي، ليس مِن الواضح مَن يكون هؤلاء الحلفاء. ولا يخلو الأمر من اختيارات أصعب تنتظر الحكومة القادمة بعد الثاني عشر من ديسمبر.

عميدة كلية بلافاتنيك للحكم ومديرة برنامج الحكامة الاقتصادية العالمية بجامعة أكسفورد