الصين تسعى لاكتساب الشرعية

مقالات رأي و تحليلات الأحد ٠٨/ديسمبر/٢٠١٩ ١٣:١٣ م
الصين تسعى لاكتساب الشرعية

روبرت سكيدلسكي

لندن ــ تواجه الديمقراطية الليبرالية أزمة شرعية، أو هكذا يُقال لنا مرارا وتكرارا. فالناس لا يثقون في الحكومات التي تقودها النخب الليبرالية، ويعتقدون على نحو متزايد أن الديمقراطية المعروضة عليهم صورية زائفة. وتنعكس هذه المشاعر في نجاح الشعبويين في أوروبا والولايات المتحدة، وفي الميل الاستبدادي الذي تظهره الحكومات في تركيا، والبرازيل، والفلبين، وأماكن أخرى حول العالم. الواقع أن الليبرالية الديمقراطية ليست موضع تحد في معاقلها الأوروبية والأميركية فحسب، بل إنها فشلت أيضا في الانتشار عالميا.

لا يزال من المعتقد على نطاق واسع أن الأنظمة الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضا. في حديثه في شيكاغو في عام 1999، أَكَّد توني بلير، رئيس المملكة المتحدة آنذاك: «إن انتشار قيمنا يجعلنا أكثر أمانا»، مما دفع بعض المراقبين إلى استدعاء نبوءة فرانسيس فوكوياما في وقت سابق بأن الانتصار العالمي الذي أحرزته الديمقراطية الليبرالية يؤذن بنهاية التاريخ. ولم يكن من المستغرب أن يثير خروج روسيا والصين لاحقا عن النص الذي كتبه فوكوياما المخاوف من اندلاع حرب باردة جديدة. على وجه التحديد، تُـفَـسَّر «نهضة الصين» الاقتصادية على أنها «تحدٍ» للغرب.

في ضوء هذه القراءة، يصبح من غير الممكن انتقال القوة الدولية سلميا إلا بين الدول التي تتشارك نفس الإيديولوجية. ولهذا، كان بوسع بريطانيا في النصف الأول من القرن العشرين أن «تسلم الشعلة» بأمان إلى الولايات المتحدة، ولكن ليس إلى ألمانيا. واليوم، كما تزعم هذه الحجة، تفرض الصين تحديا إيديولوجيا وجيوسياسيا على الهيمنة الغربية الواهنة.

إلا أن هذا المنظور يلقى منازعة شديدة من قِبَل الباحث الصيني لان تشين شيانج. ففي كتابه الجديد الرائع «السعي إلى اكتساب الشرعية في السياسة الصينية»، يحول شيانج الأضواء من أزمة الحكم في الغرب إلى أزمة الحكم في الصين.

الواقع أنها أرض مألوفة من أحد الجوانب. إذ يعتقد علماء السياسة الغربيون منذ فترة طويلة أن الديمقراطية الدستورية هي الشكل المستقر الوحيد للحكم. وعلى هذا فإنهم يزعمون أن دولة الحزب الواحد في الصين، المستوردة من البلشفية، محكوم عليها بالفناء، مع إيذان الاحتجاجات الحالية في هونج كونج بمصير البر الرئيسي للصين.

تكمن مساهمة شيانج في تحدي النظرة الغربية التقليدية التي ترى أن الصين تواجه بدائل الاندماج مع الغرب، فتحاول تدميره، أو الخضوع للعنف والفوضى في الداخل. وبدلا من ذلك، يقترح شيانج نظاما دستوريا بخصائص صينية، يقوم على كونفوشيوسية حديثة.

شيانج رجل صيني وطني مخلص، لكنه ليس مؤيدا تقليديا ضيق الأفق للرئيس شي جين بينج. والجزء الأكثر أهمية من كتابه يدور حول «كيف استخف الغرب على نحو لا ينقطع بالإنجاز الصيني». يوضح شيانج كيف تعثرت المحاولة التي ألهمها اليسوعيون في القرن السابع عشر للتوفيق بين المسيحية والكونفوشيوسية (في «مناظرات الطقوس») في مواجهة المعارضة البروتستانتية لأي شكل من أشكال الوثنية. في روايته، أُغلِق بشكل دائم المسار التوفيقي إلى «التطور المشترك» من خلال «الحكم الفاضل» بفِعل التنوير ــ والذي يفسره بوصفه تعبيرا علمانيا عن البروتستانتية الصليبية. ولم يكن لدى الصين مثل هذا الحماس الصليبي: فقد كانت راضية عن مكانها. وكما قال وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر ذات يوم، فإن «الأرض الموعودة هي الصين. والصينيون هناك بالفعل».

ساهم كبار مفكري التنوير في الانتقاد «العالمي» للصين. على سبيل المثال، جرى الترويج بشكل واع لمذهب مونتسكيو القائل بالفصل بين القوى باعتباره البديل الوحيد لـ»الاستبداد الآسيوي». ورفض هيجل النظام الصيني لأسباب تتعلق بالمذهب الغائي، زاعما أن افتقار الصين إلى الوعي «بالروح» حكم عليها بالجمود والركود (وهو الرأي الذي أيده كارل ماركس في وقت لاحق). وقال آدم سميث إن الصين لم تحرز أي تقدم اقتصادي منذ القرن الثاني عشر لأنها تفتقر إلى المؤسسات الحرة.

ثم بحلول القرن التاسع عشر، اندمجت هذه التيارات المختلفة في وجهة النظر الداروينية الاجتماعية للتقدم والتي رتبت الأجناس على سلم هرمي للإنجاز ــ وهي النظرة التي تأثرت بدرجة كبيرة بالتفوق العسكري الغربي في مواجهاته مع أجناس «أدنى». وكان هذا النهج الشمولي يشكل الأساس لنظرة الغرب المتنازلة المزدرية للصين. وكان الاقتصاديون والفلاسفة الغربيون ينظرون إلى نظام الحكم الصيني ليس بوصفه مساهمة في المخزون العالمي من الحكمة الإنسانية، بل باعتباره سببا لـ»تخلف» الصين. والواقع أن حكمهم بأن الغرب كان متفوقا على الصين في شتى مناحي الحياة، باستثناء صناعة الخزف الصيني، لم يدع أي مجال للتوفيق الثقافي.

غير أن هذه النظرة السلبية تجاهلت سجل الصين غير العادي من الاستقرار في ظل مبدأ التفويض. أساء الغرب تفسير هذا النظام ــ الذي وصفه شيانج بأنه «مبني على مخطط محدد بوضوح، حيث تحتل شرعية الدماء الملكية القمة، وتتولى طبقة النبلاء الأرستقراطية المثقفة إدارة شؤون الدولة» ــ على أنه وصفة للركود.

يزعم شيانج أن النهضة الاقتصادية الحديثة التي شهدتها الصين في الآونة الأخيرة تمثل ببساطة «استعادة» للنجاح الذي تمتعت به البلاد قبل أن تتسبب الاختراقات الغربية في القرن التاسع عشر في إعاقة نظامها المتناعم. لكن تقديرات الراحل أنجوس ماديسون لنصيب الفرد التاريخي في الناتج المحلي الإجمالي تشير إلى أن «تأخر» الصين الاقتصادي بدأ قبل فترة طويلة من مواجهتها للغرب. ففي الفترة من 1500 إلى 1870، لم يتزحزح نصيب الفرد في الدخل إلا بالكاد عن 600 دولار، في حين تضاعف نصيب الفرد في الدخل في المملكة المتحدة إلى أربعة أمثاله (من 714 دولارا إلى 3190 دولارا)، وحتى في إسبانيا تضاعف نصيب الفرد في الدخل.

وعلى هذا فقد تحقق استقرار الصين السياسي وغياب العنف عنها نسبيا على حساب الدينامية الاقتصادية، وليس بالتناغم معها. من ناحية أخرى، استند صعود الغرب اقتصاديا بوجه الخصوص إلى رفض الوحدة العضوية للأخلاق والسياسة والاقتصاد التي يقدرها شيانج عاليا.

كان شيانج غامضا حول كيفية دمج الكونفوشيوسية في نظام عالمي أنشأه الغرب. وهو يعتقد أن قادة الصين مضللون في تمنيهم بأن يساعد خطابهم الماركسي في دعم شرعية النظام، وذلك نظرا «للانحطاط الأخلاقي الذي أصاب النخبة الحاكمة التي لا يعرف نهمها لتكديس الثروة أي ضوابط أو حدود قانونية». وهو يقول إن الصين «تحتاج إلى تصور غربي للإجراءات الديمقراطية»، ومجتمع مدني قادر على العمل كبديل للتمرد.

أخيرا، يتطلع شيانج إلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية لاغتنام الفرصة التاريخية المتمثلة في إعادة إشعال شرارة الجهود اليسوعية القديمة للتصالح والتوفيق مع الكونفوشيوسية. وإذا كانت أميركا البروتستانتية تمثل روما الجديدة، كما يقول، فإن الاتحاد الأوروبي ربما يصبح بطريقة ما «نسخة علمانية من الكنيسة الكاثوليكية الموحدة قبل الإصلاح» ــ وهي خاتمة مثيرة للاهتمام لكتاب فاتن.

عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة وارويك