مصداقية البنوك المركزية

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١١/ديسمبر/٢٠١٩ ١٣:٢٧ م
مصداقية البنوك المركزية

لاري هاثاوي

زيوريخ -تُشير الزيادات الحادة الأخيرة في أسعار الأسهم وعوائد السندات إلى تراجع المخاوف بشأن الركود. لكن التوسع الاقتصادي العالمي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وعندما يحل الركود القادم، قد لا تكون البنوك المركزية مستعدة بشكل كاف لمواجهته. وبالتالي، فإن زيادة مصداقية البنك المركزي لتعزيز فعالية السياسة النقدية تُعد أولوية قصوى.

قبل الأزمة المالية في عام 2008، كان بإمكان محافظي البنوك المركزية الاعتماد على خفض أسعار الفائدة لتحفيز الاستهلاك والاستثمار وتوفير فرص العمل. لكن هذه الخطة لم تعد مُجدية كما كان عليه الحال في السابق. تتمثل إحدى الأسباب في عدم اليقين المتزايد، بسبب العولمة والشيخوخة المجتمعية وتغيير تفضيلات المستهلكين وتزايد عدم المساواة في الدخل والثروة وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والتغير التكنولوجي السريع وعوامل أخرى. حتى في غياب الركود، بالنسبة للعديد من الأسر والشركات، فإن المستقبل يبدو شاقًا ولا يمكن التنبؤ به.

ستزيد حالة عدم اليقين هذه من حدة الأزمة عند حُدوثها. عندما ترتفع درجة عدم اليقين، قد لا تؤدي معدلات الفائدة الحقيقية المنخفضة أو السلبية (المعدلة حسب التضخم) إلى زيادة الإنفاق. على العكس من ذلك، قد ترتفع معدلات الادخار ويتعثر الاستثمار حتى مع انخفاض أسعار الفائدة. إذا كانت الحكومات غير راغبة أو غير قادرة على زيادة الطلب من خلال السياسة المالية، فستكون النتيجة عبارة عن تباطؤ اقتصادي طويل ومُعقد.

يعتقد الكثيرون أن فكرة تخفيف السياسة النقدية في مثل هذه الظروف هي فكرة غير صائبة. من الناحية النظرية، لدى البنوك المركزية وسائل فعالة للاستجابة، من خلال أسعار الفائدة السلبية، وشراء الأصول، و «التوجيه المُسبق»، وغيرها من الوسائل. ومع ذلك، في الممارسة العملية، تُواجه البنوك المركزية قيودًا صارمة، مما يعني أن استجابتها للركود القادم قد تكون غير كافية.

بشكل عام، تنقسم هذه القيود إلى فئتين: القوانين أو السياسات الموضوعة التي تحدد ما يمكن للسياسة النقدية القيام به؛ والحدود السياسية والمؤسسية التي تكمن في عملية صنع القرار للبنوك المركزية. تختلف القيود القانونية وفقًا للبيئة السياسية والمؤسسية وتاريخ ولاية البنك المركزي. على سبيل المثال، عند إجراء عمليات السوق المفتوحة، يجوز لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي شراء سندات الدين الصادرة أو المضمونة فقط من قبل الحكومة الفيدرالية الأمريكية. في المقابل، قد يقوم بنك اليابان بشراء أوراق مالية من القطاع الخاص مثل الأسهم أو سندات الشركات، مما يتيح له إمكانية أكبر لتوسيع ميزانيته العمومية وتحفيز تمويل الشركات.

مثل هذه الاختلافات يمكن أن تكون مهمة في حالة حدوث ركود شديد يتطلب اتخاذ تدابير استثنائية. كمثال على ذلك، لا يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي خلق «أموال الهليكوبتر» بمفرده - وهو مصطلح استعان به الاقتصادي ميلتون فريدمان لوصف كيف يمكن للبنك المركزي تحويل النقد مباشرة إلى المواطنين من أجل تحفيز الاستهلاك. لخلق النقود (وهي مسؤولية البنك المركزي)، يجب على الاحتياطي الفيدرالي شراء الأصول. ومع ذلك، نظرًا إلى أن سندات دين القطاع الخاص ليست أصولًا مؤهلة، لا يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي تحويل النقد مباشرة إلى الحسابات المصرفية للمواطنين الأميركيين (ولا يمكنه توزيع 20 مليار دولار، حتى لو كان من خلال طائرات هليكوبتر).

لذلك، في حالة الولايات المتحدة، يجب أن تكون أموال الهليكوبتر في الواقع عبارة عن تحويل مالي من الحكومة الفيدرالية إلى مواطنيها، مع ضمان شراء الاحتياطي الفيدرالي لسندات الخزينة. وبالتالي، فهي سياسة لا يمكن المصادقة عليها إلا من قبل الكونغرس أو الرئيس. المشكلة هي أن تشريع مثل هذه التدابير سيستغرق وقتًا طويلا، في حين أن الأزمة الاقتصادية أو المالية القادمة ستتطلب على الأرجح اتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة.

يُواجه محافظو البنوك المركزية أيضًا قيودًا سياسية ومؤسسية. في أوروبا، على سبيل المثال، تُعارض المؤسسات المالية (لاسيما البنك المركزي الألماني) والمتقاعدون والمُدخرون أسعار الفائدة السلبية. إن السؤال حول ما إذا كانت مُعارضة هذه المؤسسات لتخفيف السياسة النقدية قد منعت البنك المركزي الأوروبي من التصرف بقوة كما كان يمكن أن يفعل، يبقى سؤالا مفتوحا. ولكن من الواضح أن التردد قد ساهم في تراجع مصداقية البنك المركزي الأوروبي.

يُعارض البنك المركزي الأوروبي بقوة ارتفاع معدلات التضخم، لكنه كان متسامحًا مع التضخم المُنخفض. في عام 2012، تعهد رئيس البنك المركزي الأوروبي آنذاك ماريو دراجي بعمل «كل ما يتطلبه الأمر» لإنقاذ اليورو.

ومع ذلك، لم يسعى لضمان وصول التضخم إلى الهدف الذي حدده البنك.

يُدرك الاقتصاديون حقيقة أن المصداقية تُعزز فعالية السياسة النقدية. إذا كان المستهلكون والعمال والشركات لا يعتقدون أن البنك المركزي ملتزم بتحقيق وعوده، فسيُعدلون سلوكهم وفقًا لذلك. ستؤدي توقعات انخفاض معدلات التضخم إلى معدلات تضخم منخفضة بالفعل.

تُعد هذه النتائج مُكلفة للغاية. عندما يكون التضخم جد منخفض، يصعب خفض أسعار الفائدة الحقيقية، لاسيما إذا كان المواطنون يُعارضون معدلات رمزية سلبية. في مثل هذه الظروف، يتخلى البنك المركزي، غير الراغب في الالتزام بهدف التضخم، جزئياً عن أداة السياسة الأكثر أهمية: القدرة على خفض أسعار الفائدة الحقيقية في حالة حدوث ركود مفاجئ.

يُشكل غياب الأدوات السياسية تحديا كبيرا حيث أثبتت قنوات النقل التقليدية للسياسة النقدية أنها أقل فعالية. من غير المرجح أن تخفض سياسة التخفيف قيمة العملة وتُعزز الصادرات الصافية حتى إذا قامت البنوك المركزية الأخرى بذلك. وعلى الرغم من أن السياسات النقدية المُتساهلة قد تُعزز أسعار الأصول، فإن الاستهلاك لن يزيد كثيرًا إذا كانت الفوائد تعود على الأثرياء فقط.

عندما يحل الركود المقبل، سيكون قد فات الأوان لإصلاح عيوب البنوك المركزية. ولكن يمكن للبنوك المركزية استعادة مصداقيتها عن طريق إجراء تغييرات مُسبقة. على سبيل المثال، يتعين على البنك المركزي الأوروبي ضمان تحقيق هدف تضخم متماثل، وزيادة التخفيف. إن القيام بذلك، عند استعادة الثقة بالنمو، من شأنه أن يرسل إشارة قوية على أن التغيير السياسي أمر هيكلي وليس مجرد حل متأخر.

يجب على محافظي البنوك المركزية أيضًا إعادة النظر في قيود السياسة القانونية المفروضة، مع التركيز على تعديل أو إزالة القيود التي قد تعيق مرونة السياسة في سيناريوهات «المخاطر». إن إظهار الاستعداد للعمل قبل حدوث الأزمة هي وسيلة غير مكلفة بالنسبة للبنوك المركزية لحماية أهم أصولها: الثقة بأنها تعرف ما تفعله.

رئيس المجموعة لحلول الاستثمار وكبير خبراء الاقتصاد لدى GAM