أعز الرجال وأنقاهم

مقالات رأي و تحليلات الخميس ١٦/يناير/٢٠٢٠ ١٣:١٠ م
أعز الرجال وأنقاهم

نصر البوسعيدي

كان الظلام في تلك الليلة أكثر كآبة.. حاول الجميع أن يقضي ليلته ويغفو بهدوء رغم شدة المطر والبرد .. أرق غريب وشعور بالضيق أصبح يملأ المكان ضجيجا في الأنفس.. وفجأة صوت الثكلى وصوت البكاء تراه يشق الليل ويحطم النوافذ ليصحوا الجميع من هلع الموقف يتساءلون عن النبأ العظيم والفقد الأليم الذي لا يكاد يصدق لولا الإيمان بقضاء الله وقدره..

لقد شق ظلام الليل وقلوبنا معا صوت التلفاز وهو يذيع بيان صادر من ديوان البلاط السلطاني يحمل في كل حرف منه دموع شعب تنزف بشكل مريب:

«يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي وادخلي جنتي».. بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره وببالغ الحزن والأسى ممزوجين بالرضا التام والتسليم المطلق لأمر الله ينعى ديوان البلاط السلطاني المغفور له بإذن الله تعالى مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور المعظم الذي اختاره الله إلى جواره مساء يوم الجمعة 10 يناير لعام 2020م، بعد نهضة شامخة ارساها خلال 50 عاما منذ أن تقلد زمام الحكم في 23 من يوليو عام 1970م وبعد مسيرة حكيمة مظفرة حافلة بالعطاء شملت عُمان من أقصاها إلى أقصاها وطالت العالم العربي والإسلامي والدولي قاطبة وأسفرت عن سياسة متزنة وقف لها العالم أجمع إجلالا واحتراما).
وقبل أن ينتهي ناطق البيان من الكلمة الأخيرة هاجت الدموع كالأمواج في كل مدينة وأصبحت عُمان من شمالها إلى جنوبها وفي كل بقعة منها تضج بالبكاء والحزن لهذا الفقد الجلل..
لقد فقد العمانيون قائدا وأبا حكيما مسالما متسامحا تسلم الحكم وهو شاب في عام 1970م وعُمان محطمة من الفرقة والكراهية والحروب المتتالية والأمراض الهالكة للأنفس مع جهل مخيف وفقر يسحق الآمال ويكاد صفرا في البنى الأساسية للبلاد.

لم يكن سلطانا عاديا، فقد كان هذا الشاب ذو الاسم الفريد ( قابوس ) مختلفا تماما عما عهده أهل عُمان الذين عايشوا الفترات التي سبقت حكمه، لقد آمنوا به وهو يحدثهم بخطاباته الدافئة الصادقة عن وعده الصادق بأن يجعلهم سعداء ومستقبلهم أفضل، وكان يقول لشعبه منذ بداية حكمه :
« ...خطتنا في الداخل أن نبني بلدنا ونوفر لجميع أهله الحياة المرهفة والعيش الكريم وهذه غاية لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق مشاركة أبناء الشعب في تحمل المسؤولية ومهمة البناء».

لن أعدد اليوم منجزات المغفور له بإذن الله السلطان قابوس طيب الله ثراه فهي لا تحصى ولن تفيها كل الكلمات مهما حاولنا حصرها.
ولكنني سأكتب عن رحيله وما حدث من انتقال سلس للسلطة بعدما كان الجميع يسأل من سيحكم البلاد وهو من لا يملك أبناء ولا ولي للعهد بعد هذا الفقد الجلل والذي أصبح شغل شاغل العالم أجمع خاصة بعد رجوع الفقيد المعظم من مملكة بلجيكا في رحلة علاجية قصيرة أربكت الجميع.

لقد أصبح الجميع في عُمان والمحبون في هلع وخوف وارتباك منتظرين خبرا يستبشرون به خيرا للاطمئنان على من يرونهم والدهم وباني نهضتهم من أخرج عُمان من العصور الوسطى إلى عصور النور والتقدم والازدهار بعدما زرع ذلك الحب السامي والوعي المتقد بنفوس وعقول ابنائه ليكملوا مسيرة بناء عُمان نحو المستقبل، فكانت بداية العام الجديد لسنة 2020م بداية الفرح حينما انتشر بيان ديوان البلاط السلطاني كالنار في الهشيم سعادة وهو يطمئننا بصحته ويبعث لشعبه أسمى آيات الشكر رغم شدة مرضه.
هذا البيان كان كفيلا لوحده بأن ينثر كل أنواع الغبطة والسرور في قلوب شعب عُمان المتعلق جدا بقائده الفذ، ليصبح العام الجديد مختلفا عن أي عام فهو عام الخمسين لحكم جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد طيب الله ثراه والذي يعتبر أكثر الحكام العرب في التاريخ حتى الآن حكما لبلاده.

لكن قضاء الله وقدره كان الأسبق في 10 يناير مساء الجمعة حينما انتقلت روحه الطاهرة للرفيق الأعلى ليفجع العالم أجمع برحيله الذي لم تدركه حتى الآن العقول والقلوب المتعلقة بحبه النقي الذي تجاوز خيال كل العالمين.

رحل الحنون المتسامح الكريم النبيل بعطائه سيد العفو عند المقدرة وبجنازة عسكرية بسيطة لكنها مهيبة ليصلي عليه جموع من عائلته وجنوده وشعبه في جامع السلطان قابوس الأكبر ويوارى جسده الطاهر في مقبرة العائلة المالكة بغلا بكل هدوء ، لتتوشح عُمان بالسواد ونكس الأعلام والحداد الذي كان أثقل من كل شيء وشاركنا الحزن العالم أجمع وبالأخص دولة الكويت الحبيبة حكومة وأعلاما وشعبا حيث ستبقى مواقفهم المشرفة محفورة في قلوبنا أبد الدهر.

في الوقت الذي كان الجميع يترقب بخوف شديد في أصعب لحظات تاريخ عُمان لفقدها الجلل والذي يعايشه أهل عُمان لأول مرة في حياتهم، فهناك سبعة أجيال تعاقبت ولم تدرك في مسيرة معيشتها إلا السلطان الراحل قابوس المعظم طيب الله ثراه وغفر له، نعم انه لفقد جلل لم تدركه كل الأجيال التي تعيش اليوم على أرض عُمان، فجيل الأربعينات والخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات والألفية الجديدة جميعهم يتعرضون لأول مره لألم هذا الفقد في تاريخ عُمان لسلطان حكيم يعاملهم بأبوية مطلقة لم يعايشوا غيره، لذلك لن تستغرب أبدا أن تجد كبار السن وقد تجاوزوا الثمانين من عمرهم وأكثر يبكونه بحرقة ويعتبرونه والدهم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.

هنا برز مجلس الدفاع بكل مسؤولية وهو يسير على نهج قائده الراحل الذي كان معلمهم الأول في الجد والاجتهاد والذود عن الوطن وترسيخ الامن وتسهيل انتقال السلطة لمن يتفق عليه أفراد العائلة المالكة الموقرة، فقد أعلن مجلس الدفاع في صباح ذلك اليوم الباكر بيانه التالي :

«...أمام هذه اللحظة التاريخية من عمر عُمان وعمق الأسى لهذا الحدث الجلل واستنادا لما نصت عليه المادة ( 6 ) السادسة من النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (101/‏‏‏96) وتعديلاته، فقد انعقد مجلس الدفاع الوطني برئاسة معالي الفريق أول سلطان بن محمد النعماني وزير المكتب السلطاني رئيس مجلس الدفاع بالإنابة، وبحضور جميع أعضائه، وتنفيذا للمادة ( 2/‏‏‏أ) من المرسوم السلطاني رقم ( 105/‏‏‏96) في شأن مجلس الدفاع فقد قام المجلس بدعوة العائلة المالكة للانعقاد لتحديد من تنتقل إليه ولاية الحكم، وسيظل مجلس الدفاع في حالة انعقاد معاهدين الله بالثبات على الولاء والطاعة لما فيه خير هذا الوطن العزيز ورفعته».

وما هي إلا لحظات بسيطة لم تتجاوز الأربع ساعات انعقد الاجتماع التاريخي المثقل بالحزن والمسؤولية مع أفراد العائلة المالكة التي كان لها موقف رائع جدا لن ينساه التاريخ أبدا حينما اتفقوا على رضاهم جميعا لمن أوصى به سلطاننا الراحل تكريما له ولمواقفه النبيلة اتجاه عُمان وأهلها وثقتهم العظيمة في اختياره لمن يراه بنظرته الثاقبة خير من يخلفه في حكم البلاد، فالسلطان الراحل قد كتب وصية سجل فيها اسم خليفته إن لم تتفق العائلة المالكة على من يخلفه بالحكم في ثلاثة أيام بعد وفاته، ولكن كل ذلك أنهته العائلة بوعي ومسؤولية لنقف جميعا تحية موقف إكبار وإجلال لهذه الأسرة العريقة التي جعلت وصايا السلطان قابوس طيب الله ثراه وأمن عُمان واستقرارها نصب أعينهم والأولوية القصوى في هذا المصاب.

ومن هنا قام مجلس الدفاع بفتح وصية المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه وأمام عدسات التلفزيون لبث الوصية لجميع المواطنين بكل شفافية ووضوح والتي تمت الإشارة فيها لمن اختاره سلطاننا الراحل وكان الاختيار لابن عمه جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور بن فيصل بن تركي بن سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد البوسعيدي سلطانا على البلاد ولعهد جديد من النهضة المباركة.

وكما هو معروف ينتمي جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور لعائلة تعتبر من أقدم العائلات العربية العريقة حكما وهو أب لولدين وابنتين حفظهم الله جميعا، أما والده فهو السيد طارق بن تيمور وكان من أقوى الرجال وأشجعهم والذي يفيض بكل وطنية لعمان وأهلها فقد تقبل اختيار والده تيمور لشقيقه سعيد ليصبح سلطانا للبلاد بكل وعي ومسؤولية سطرها التاريخ كذلك بأحرف من ذهب، ولم يكتف بذلك بل ساهم السيد طارق رحمه الله مع شقيقه السلطان سعيد بن تيمور في توحيد عُمان بكل بسالة لإنهاء حالة الانقسام الحزين الذي حل بالبلاد منذ معاهدة السيب عام 1920م، فكان بنفسه يقوم بقيادة الجيوش تحت لواء حكم شقيقه السلطان، لينهيا سويا عام 1959م الحرب ويعلنا أن عُمان أصبحت جزءا واحدا لا يتجزأ وللأبد.
وحينما حكم المغفور له جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه جعله رئيسا لوزرائه، ولكن بعد فترة من الزمن قدم السيد طارق استقالته من هذا المنصب وأصبح المستشار الأول لابن أخيه في إدارة شؤون البلاد.
وعطفا على ما سبق فقد حرص جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور حفظه الله ورعاه في خطابه الأول بتاريخ 11 يناير لعام 2020م، والذي يترقبه العالم أجمع بعد أدائه القسم من ذكر مناقب المغفور له جلالة السلطان قابوس طيب الله ثراه والذي اعتبره أعز الرجال وأنقاهم، مع توضيح مهم لسياسة عُمان ونهجها فقال جلالته :

« شاءت إرادة الله أن نفقد أعز الرجال وأنقاهم المغفور له بإذن الله حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور رحمه الله، فصاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور المغفور له بإذن الله رجل لا يمكن لخطاب كهذا أن يوفيه حقه وأن يعدد ما انجزه وما بناه، فلقد بنى دولة عصرية شهد لها القاصي قبل الداني وشيد نهضة راسخة تجلت معالمها في منظومة القوانين والتشريعات التي ستحفظ البلاد وتنظم مسيرتها نحو مستقبل زاهر، فلقد أقام جلالته بنية أساسية غدت محطة أنظار العالم وأسس منظومة اقتصادية واجتماعية قائمة على العدالة وتحقيق التنمية المستدامة وزيادة الإنتاج وتنويع مصادر الدخل مما أدى إلى رفع مستوى معيشة المواطن العماني، وأقام هياكل ثابتة ودائمة للتعليم بجميع مستوياته وتخصصاته فنهلت منه الأجيال وتشربت علما ومعرفة وخبرة فجزاه الله خير ما جزى سلطانا عن شعبه وبلده وأمته».

ففي هذه الكلمات من الخطاب السامي والذي استمع إليه شعبه بكل اطمئنان وهو يذكر سيرة المغفور له بإذن الله ويخفف عنهم ألم الفقد الذي خيم على الجميع مذكرا بأن السلطان الراحل قد ترك عُمان وهي بكامل جاهزيتها للمرحلة المقبلة من البناء والعمل.
ثم بين جلالة السلطان هيثم بن طارق رعاه الله سياسته في إدارة حكم البلاد والذي ترقبه العالم أجمع مثلما أسلفت فقال بالنسبة للشأن الخليجي :

«سنبقى كما عهدنا العالم في عهد المغفور له بإذن الله حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور داعين ومساهمين في حل الخلافات بالطرق السلمية وباذلين الجهد لإيجاد حلول مرضية لها بروح من الوفاق والتفاهم، وسنواصل مع أشقائنا قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الإسهام في دفع مسيرة التعاون بين دولنا لتحقيق أماني شعوبنا ولدفع منجزات مجلس التعاون قدما للأمام».

أما بالنسبة لسياسة عُمان اتجاه قضايا الوطن العربي فقال جلالته :

«في الشأن العربي سوف نستمر في دعم جامعة الدول العربية وسنتعاون مع أشقائنا زعماء الدول العربية لتحقيق أهداف جامعة الدول العربية والرقي بحياة مواطنيها والنأي بهذه المنطقة عن الصراعات والخلافات والعمل على تحقيق تكامل اقتصادي يخدم تطلعات الشعوب العربية».

ولم ينس جلالته في خطابه الأول أن يوضح للعالم أجمع سياسة ومسيرة حكمه والتزامه بكل الاتفاقيات والمواثيق التي تعهد بها السلطان الراحل طيب الله ثراه فقال :

« ستواصل عُمان دورها كعضو فاعل في منظمة الأمم المتحدة تحترم ميثاقها وتعمل مع الدول الأعضاء على تحقيق السلم والامن الدوليين ونشر الرخاء الاقتصادي في جميع دول العالم، سنبني علاقاتنا مع جميع دول العالم على تراث عظيم خلفه لنا السلطان الراحل أساسه الالتزام بعلاقات الصداقة والتعاون مع الجميع واحترام المواثيق والقوانين والاتفاقيات التي أمضيناها مع مختلف الدول والمنظمات».

بعد ذلك وجه جلالة السلطان هيثم بن طارق خطابه لشعبه الذي بايعه على السمع والطاعة والولاء مثلما أراد باني نهضة عُمان الأب القائد طيب الله ثراه شاكرا مشاركا الجميع في كل منجزات هذا الوطن وما تم موصيا كل فرد بالوعي وتحمل المسؤولية لنبني عُمان جميعنا ونتجاوز سويا كل التحديات قائلا لهم :

« أيها المواطنون ما كان لبلادنا عُمان أن تحقق كل ذلك لولا القيادة الفذة للمغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور رحمه الله والأسس الثابتة التي قام عليها بنيان هذه الدولة العصرية والتفافكم حول قيادته واعتزازكم بما أنجزناه جميعا تحت قيادته الحكيمة .. يا أبناء عُمان الأوفياء إن الأمانة الملقاة على عاتقنا عظيمة والمسؤوليات جسيمة وينبغي لنا جميعا أن نعمل من أجل رفعة هذا البلد وإعلاء شأنه وأن نسير قدما نحو الارتقاء به على حياة أفضل، ولن يتأتى ذلك إلا بمساعدتكم وتعاونكم وتضافر جميع الجهود للوصول إلى هذه الغاية الوطنية العظمى».

وحمل خطاب جلالته شكره العميق لجميع قواته المسلحة ودورهم المهم جدا في ترسيخ الأمن والاستقرار والاحترام في هذا الوطن الغالي على قلوبنا جميعا فقال حفظه الله :

« إن ثبات ورسوخ الامن وانتشار الأمان في ربوع هذه البلاد الذي ما كان ليتحقق إلا بوجود قوات مسلحة جاهزة وعصرية ومعدة إعدادا عاليا بكل فروعها وقطاعاتها، وأجهزة أمنية ضمنت استقرار البلاد واحترام المواطنين، ونحن نقدر دورها العظيم في ضمان منجزات ومكتسبات البلاد، ونؤكد على دعمنا لها واعتزازنا بدورها».

وهنا نلاحظ أن جلالته أشاد بشكل خاص لأهمية احترام المواطن العماني من قبل الأجهزة الأمنية، وهذه نقطة في غاية الأهمية ساهمت وستساهم دائما بذلك التعاضد بين المواطن وجهازه الأمني في وحدة وتماسك أمن البلاد وأهلها.
إننا مقبلون على عهد جديد نكمل فيه مسيرة سلطان عظيم رحل عنا ولكنه باق فينا حتى نهاية العالم بالمبادئ التي وضعها والأسس التي من خلالها صنع نهضة مباركة مستمرة مع خير خلف.

مرجع البيانات والخطاب السامي لجلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه :

الحساب الرسمي للتواصل الحكومي بالأمانة العامة لمجلس الوزراء @Oman_GC.