السلطان الراحل غرس قيم العدالة والمواطنة والمساواة

بلادنا الخميس ٣٠/يناير/٢٠٢٠ ١١:٣٣ ص
السلطان الراحل غرس قيم العدالة والمواطنة والمساواة

مسقط - الشبيبة

حرص المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - على إعلاء قيم العدالة والمواطنة والمساواة وحكم القانون وتدعيم أركان دولة المؤسسات في اطار الدولة العصرية التي ينعم فيها المواطن والمقيم بالأمن والأمان، وتتحقق فيها للجميع أجواء الطمأنينة وصون الحقوق في ظل حكم وسيادة القانون.

واتجهت الإرادة السامية للسلطان الراحل - طيب الله ثراه - إلى إنشاء قضاء متخصص يُعنى بالفصل في كافة الأنزعة والخصومات الإدارية؛ فصدر المرسوم السلطاني رقم (91/‏99) بإنشاء محكمة القضاء الإداري كجهة قضائية مستقلة تختص بالفصل في عموم الخصومات الإدارية التي حددها القانون، والتي تُعد في حقيقتها نقلة حضارية مهمة في تاريخ التنظيم القضائي بالدولة ورافداً مهماً من روافد دولة المؤسسات والقانون. ولعل النظرة الحكيمة لصاحب الجلالة - طيب الله ثراه - ارتأت إنشاء قضاء متخصص ومستقل عن باقي المنظومة القضائية في الدولة حتى يتم التعامل مع الخصومات الإدارية بواسطة محكمة متخصصة في هذا الشأن بالنظر إلى الطبيعة الخاصة التي تتسم بها الخصومة الإدارية عن باقي عموم الخصومات القضائية، وبما سيكفل لهذا النوع من الخصومات سرعة الفصل فيها تحقيقاً للعدالة الناجزة في هذا النوع من الأقضية.

وترسيخاً لدولة المؤسسات والقانون التي أرسى دعائمها باني النهضة العمانية الحديثة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وتأكيداً لما نصت عليه المادة (67) من النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (101/‏96) التي نصت على أن ينظم القانون الفصل في الخصومات الإدارية بواسطة دائرة أو محكمة خاصة، وإيماناً من المشرّع بأهمية وجود قضاء متخصص للنظر في المنازعات الإدارية، فقد أنشأت محكمة القضاء الإداري بموجب المرسوم السلطاني رقم (91/‏99)، لتكون حصناً منيعاً لمبدأ المشروعية، وسيادة حكم القانون، وصون حقوق وحريات الأفراد، وذلك بإخضاع سائر التصرفات الصادرة عن وحدات الجهاز الإداري للدولة لرقابة المحكمة؛ للتحقق من تطبيق أحكام القانون واللوائح والقرارات المختلفة المنظمة لعمل هذه الجهات، ومراعاة الصالح العام الذي يجب أن يكون مقصداً للجهات الإدارية في عملها وتحقيقها لأهدافها التي أنشأت من أجلها، وضرورة سير كافة المرافق العامة في الدولة بانتظام واضطراد نحو تقديم الخدمات الأساسية المطلوبة للمواطنين في الدولة.

ومما يجدر ذكره أنه لا يوجد قبل إنشاء محكمة القضاء الإداري جهة قضائية متخصصة للبت في المنازعات الإدارية، وإنما كان الأمر مشتتاً لا تحكمه قواعد موحدة، فمنازعات ذوي الشأن مع جهات الإدارة وتظلماتهم من قراراتها وتصرفاتها كانت يبت فيها إما عن طريق التظلم إلى ذات الجهة أو إلى مجلس الوزراء أو إلى وزير الديوان أو برفع التماس إلى المقام السامي، وهو الأمـــر الذي استوجب أن ينــص الــنظام الأساسي للدولة في المادة (67) منه على أول معالجة قانونية في شأن تنظيم القضاء الإداري في السلطنة، وعملاً بالنص المذكور صدر المرسوم السلطاني رقم (91/‏99) بإنشاء محكمة القضاء الإداري وإصدار قانونها.

ويأتي إنشاء محكمة القضاء الإداري أحد إنجازات النهضة المباركة، فكانت السلطنة الدولة العصرية التي يشهد العالم بإسهامها الحضاري والفكري وحضورها الفاعل في المحافل الإقليمية والدولية ومنجزاتها التنموية المتحققة على الصعيد الداخلي، والشاهدة على حجم الجهود الحكومية التي بُذلت منذ فجر النهضة المباركة عبر الخطط والبرامج التنموية، والتي كانت ولا تزال غايتها الإنسان والمجتمع.

وقد واكبت محكمة القضاء الإداري آخر التطورات والمستجدات على الساحة القضائية من توفير بيئة قضائية تُحقّق العدالة الناجزة وتسهِّل إجراءات التقاضي وتقريبها إلى جميع المواطنين؛ من أجل كفالة حق التقاضي للجميع، وفقاً للقاعدة العامة التي أقرها النظام الأساسي للدولة والذي أكّد في المادة (25) منه على أن التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، ويبيّن القانون الإجراءات والأوضاع اللازمة لممارسة هذا الحق وتـكفل الدولة قدر المستطاع تـقـريب جهات القضـاء من المتـقاضين وسرعة الفصل في القضايا.

تطورا ملحوظا

وشهدت محكمة القضاء الإداري تطوراً ملحوظاً وهي تلج عامها العشرين، سواءً من حيث عدد الدعاوى المسجلة لدى المحكمة أو الأحكام التي صدرت فيها، إذ حرصت محكمة القضاء الإداري منذ بداية عملها في 1/‏12/‏2000م على ممارسة اختصاصاتها المحددة في المادة (6) من قانونها، والتي نصّت على اختصاصها بالفصل في سائر الخصومات الإدارية، الأمر الذي كان له عظيم الأثر في مساهمة المحكمة في تصحيح بعض الممارسات الإدارية، ومعالجة حالات القصور التشريعي، من خلال ما رسّخته من مبادئ وأطر قانونية في كافة المجالات التي تدخل في اختصاصاتها، وقد كان لهذه المبادئ دوراً ملموساً في الارتقاء بمستوى الممارسات الإدارية للجهات الحكومية، وفي مستوى الخدمات التي تقدمها هذه الجهات كذلك، وفي مقابل ذلك ساعدت جهات الإدارة في الالتزام بمبدأ المشروعية في تصرفاتها، وكان لذلك الدور المهم في الارتقاء بدور الجهات الإدارية في الحفاظ على الحقوق والحريات العامة.
وقد حرصت السلطنة على تحقيق الاستقلالية المنشودة لجهات القضاء فصدر المرسوم السلطاني رقم (10/‏2012) في شأن إدارة شؤون القضاء، وبموجبه أسندت مهمة الإشراف على إدارة الجهات القضائية للقضاة أنفسهم وأخرجت من مظلة الإدارة (محكمة القضاء الإداري من ديوان البلاط السلطاني، مجلس الشؤون الإدارية للقضاء من وزارة العدل، والادعاء العام من شرطة عمان السلطانية).
وعلى الرغم من نشأة القضاء الإداري في السلطنة بتنظيمه الحديث وفق منظومة مستقلة عن منظـومة القـــضاء العادي أخذاً بفكـــرة التخصـــص في العمل القضائي، إلا أن تلك الاستقلالية لم تنل من فكرة التكامل الإيجابي للعمل القضائي والتواصل المثمر لجهات القضاء المختلفة لتحقيق مقتضيات العدالة إذ تعمل محكمة القضاء الإداري جنباً إلى جنب مع القضاء العادي الذي يختص بنظر الخصومات التي تقع بين الأفراد والأشخاص الاعتبارية الخاصة كمنظومة قضائية متكاملة، إذ يؤدي كل منهما دوره المنوط به على النحو المحدد لاختصاصه.
وشهدت محكمة القضاء الإداري منذ بداية عملها زيادة مضطردة في عدد الدعاوى المنظورة أمامها كماً ونوعاً، ولا سيما بعد صدور المرسوم السلطاني رقم (3/‏2009) الذي تضمن التوسع في اختصاصات المحكمة بعد أن كانت اختصاصاتها محدودة، وأصبحت المحكمة تختص بنظر الدعاوى التي يقدّمها الموظفون العموميون بمراجعة القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بسائر شؤونهم الوظيفية، وهو الأمر الذي ولّد لدى الموظف العام الشعور بالأمن الوظيفي، وانعكس إيجاباً على الوظيفة العامة، فضلاً عن اختصاصها بنظر الدعاوى التي يقدّمها ذوو الشأن بمراجعة القرارات الإدارية النهائية، والقرارات النهائية الصادرة عن لجان إدارية ذات اختصاص قضائي، كما تختص المحكمة بالدعاوى الخاصة بالرواتب والمعاشات والمكافآت المستحقة للموظفين أو ورثتهم، علاوة على اختصاصها بدعاوى التعويض المتعلقة بالخصومات الإدارية، والدّعاوى المتعلقة بالعقود الإدارية التي تبرمها الجهات الإدارية مع الأفراد أو الأشخاص الاعتبارية الخاصة في سبيل ممارسة اختصاصاتها المنوطة بها، وهو الأمر الذي أوجد بيئة ملائمة وجاذبة للاستثمار المحلي والخارجي.

مواكبة المحكمة للجهود التنموية

تشهد المحكمة ومنذ بداية نشأتها تزايداً مستمراً في أعداد الدعاوى والطعون المقيدة بها سنة بعد أخرى، وهذا يجري بشكل متسق مع تزايد حجم نشاط المرافق العامة، وتوسع الأنشطة الإدارية والاقتصادية والتنموية، فكلما ازداد نشاط جهات الإدارة وتوسعت المشاريع، وازدادت الحركة الاقتصادية والتنموية في البلاد؛ كلما انعكس ذلك على زيادة في أعداد الدعاوى المقيدة والمنظورة أمام المحكمة، ولا شك أن السلطنة شهدت في السنوات الأخيرة حركة تنموية كبيرة ومتنوعة، وقد استتبع ذلك توسعاً كبيراً في نشاطات وتصرفات الجهات الإدارية بمناسبة قيامها بواجباتها الإدارية وإدارتها للمرافق العامة، كما أن التوجيهات الرسمية بتنويع مصادرالدخل وتشجيع الاستثمارات أدى بدوره إلى زيادة كبيرة في النشاطات الاستثمارية والمالية، وزيادة في المشروعات التنموية، ومشروعات البنى التحتية للخدمات في كافة محافظات وولايات السلطنة، وقد ترتب عن ذلك زيادة كبيرة وملحوظة في أعداد الدعاوى التي تصدت المحكمة لنظرها في الطورين الابتدائي والاستئناف، وهو ما استوجب من المحكمة مضاعفة جهودها في حجم الإنجاز والتعامل مع المستجد من الدعاوى وقد تمثل ذلك في الجهود المبذولة لمسايرة ذلك بالتطوير في النظم الإدارية والإجرائية، ولأجله باشرت المحكمة العمل على تحقيق سرعة الإنجاز في تلك الدعاوى من حيث الكم والنوع، وقللت بذلك من تراكم الدعاوى، وتأخر الفصل فيها، وحققت تقدماً في هذا المجال تظهر ثماره بجلاء من خلال العدد القليل للدعاوى المرحلة، وهو ما يتبين منه أن المحكمة حققت إنجازاً في معدل المدة اللازمة للبت في الدعوى من تاريخ القيد وحتى صدور الحكم فيها، وأن معدل البت في الدعاوى يشكل نسبة عالية جداً تضاهي أو تفوق المستويات في أفضل النظم القضائية، ولم يقتصر تقدم المحكمة بشأن رفع القدرة الإنتاجية لها على الدوائر القضائية في مسقط مع اختلاف درجاتها، بل اتسع ليشمل دوائر المحكمة في ولايتي صلالة وصحار، حتى أصبح للأخيرة تقسيم داخلي إلى دائرتين لمواكبة الأعداد المتزايدة للدعاوى ولتحقيق السرعة في تحقيق العدالة الناجزة، وبذلك تكون المحكمة قد عملت بطاقة إنتاجية تبلغ ضعف الطاقة التي عملت فيها في الأعوام السابقة.

قضاء إداري مستقل

ودور رقابي مميز

إن القضاء الإداري في السلطنة ممثلاً بمحكمة القضاء الإداري يتميز بأنه قضاء مستقل عن منظومة القضاء العادي، في ظل القسط الوافر من الاهتمام والرعاية السامية الذي حظيت به المحكمة من لدن المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد - طيب الله ثراه - واهتمامه بالقضاء بوجه عام، باعتبار المحكمة جهة قضائية متخصصة وأحد المكونات الأساسية التي تقوم عليها المنظومة القضائية في السلطنة.
وأريد لها أن تكون في منظومة قضاء مستقل عن القضاء العادي حرصاً من القيادة الحكيمة على وجود التخصص في الفصل في الخصومات الإدارية على وجه يكرس التخصص الفني الدقيق في الممارسة القضائية، ويكفل السرعة في الإجراءات القضائية، وتحقيق العدالة السريعة والناجزة، وذلك انعكس بجلاء في مساهمة المحكمة في الدور الرقابي الذي تباشره من خلال تصحيح بعض الممارسات الإدارية، وإن المتأمل للدور الذي باشرته المحكمة منذ إنشائها يتبين له أهمية ما رسخه القضاء الإداري من مبادئ وقواعد قانونية في مجالات مختلفة كان لها الأثر العظيم في تصحيح بعض تلك الممارسات للجهات الحكومية، إذ ساهم دور الرقابة القضائية الذي باشرته المحكمة على تصرفات وقرارات الجهات الإدارية في إطار الدعاوى التي تنظرها، وما رصدته الأحكام الصادرة عنها، في الارتقاء بمستوى الممارسة الإدارية لهذه الجهات ومستويات الأداء التي تقدمها، إذ ساعدت الإدارة على الالتزام بمبدأ المشروعية في تصرفاتها.

السرعة والبساطة في

إجراءات تنفيذ أحكام المحكمة

تقوم محكمة القضاء الإداري بمتابعة تنفيذ الأحكام الصادرة عنها، ويمتاز تنفيذ الأحكام الإدارية الصادرة عن المحكمة بالسرعة والبساطة في الإجراءات، الأمر الذي أدى إلى التقليل من إشكالات التنفيذ في الأحكام الإدارية، فضلاً عن مبادرة الجهات الإدارية الصادرة الأحكام الإدارية في مواجهتها إلى تنفيذها فور صدورها، دون حاجة إلى اتخاذ إجراءات التنفيذ ضدها من قبل المحكوم لصالحه؛ إيماناً منها بأنّ المحكمة خير معين لها في تطبيق أحكام القانون، والالتزام بمبدأ المشروعية، بما مؤداه العمل بـــمنهج التكاملية في العمل بين المحكمة من جهة والجهات الإدارية الخاضعة لرقابتها القضائية من جهة أخرى، الأمر الذي يؤدي إلى سيادة حكم القانون، والالتزام بمبدأ المشروعية التي تعد المحكمة حصنه الحصين.
وإن ما ينبغي التأكيد عليه أن الجهات الإدارية وباعتبارها مدعى عليها في الغالب الأعم في الدعاوى التي تنظرها المحكمة تصنف بكونها (خصم شريف) أي أن تصرفاتها وقراراتها نابعة بحكم الأصل من مقتضيات المصلحة العامة، وأن الأصل فيما تتخذه من قرارات وتصرفات وأعمال إنما قائمة على مبدأ المشروعة أي أنها متفقة وأحكام القانون، وهي في كل الأحوال غاية نبيلة تنشدها جـــهات الإدارة ومــن واجبها أن تعـــمل علـــى تحقيقها قياماً منــها بواجبها ومســؤوليتها.

نظام إلكتروني متكامل وحديث

عملت المحكمة على إيجاد نظام قضائي إلكتروني (ناجز) الذي حقق قفزة نوعية نحو مفهوم الحكومة الإلكترونية التي تنادي بها السلطنة، حيث أوجدت المحكمة نظاماً آلياً يتولى من خلاله أعضاء المحكمة والإداريون فيها، على إنجاز كافة إجراءات التقاضي، منذ تسجيل الدعوى وحتى حفظها، ويتم تفعيل ذلك النظام بربط دوائر المحكمة بمسقط مع دوائر المحكمة في ولايتي صلالة وصحار، مما أسهم في توفير الوقت والجهد لإنهاء الدعاوى بأسرع وقت ممكن مع المحافظة على دقة وسرية البيانات والمعلومات، ضمن منظومة متكاملة.
ويقوم «النظام القضائي الإلكتروني» على تحديد الصلاحيات لكل مستخدم حسب مسماه الوظيفي، ومن هذا المنطلق لا يسمح النظام لأي شخص بالدخول أو الاطلاع على البيانات أو اتخاذ القرارات، إلا في حدود الصلاحيات المخّولة له، ويتولى النظام توريد الدعاوى من جهة تسجيل وتقييد الدعاوى والطعون، ومن ثم ربط جميع ما يرد على الدعوى إلكترونياً بغض النظر عن مكان إيداعها، مما يوفر خصائص عدة، أهمها: تحقيق التكامل والترابط بين كافة أعمال المحكمة بشكل آلي، من خلال إدارة سير الإجراءات الذي يضمن انسيابية حركة الدعوى، وبيان القرارات الصادرة بشأنها بشكل آمن وطريقة سهلة ومرنة، حيث يتحكم النظام بسير إجراءات الدعوى ومراقبتها، وتحديد من أين تبدأ، وأين يجب أن تنتهي، مما أسهم في تقليل حجم العمل اليدوي والاستخدام الورقي، إضافة إلى تعزيز الدقة والسرعة في تداول المعلومات واتخاذ القرارات.