أهل عمان..بين فجرين

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٩/فبراير/٢٠٢٠ ١٢:٠٩ م
أهل عمان..بين فجرين

محمد بن علي البلوشي

أهل عُمان .. بين فجرين

اليوم ينتهي الحداد العام الذي أوجع عمان لأول مرة في عصرها الحديث.. حداد على سلطان من عظماء سلاطين عمان - عملا وفعلا وقولا.. حنونا عطوفا على عمان وأهلها. حمل مصابيحه ليلا ليقرأ احتياجاتهم.

طاف الصحاري والسهول والاودية ليستمع لهم. فانتشلها من حقبة أشبه بالعصور الوسطى ومن غياهب الظلام الى نور التاريخ والمستقبل المشرق.

خمسون عاما من حضوره الكبير في القلوب والوجدان. كيف لرجل ان يعيش بحب عفوي في قلوب شعبه؟

من نشيد صوت النهضة نتذكر دوما. «صافحنا الفجر بأجفان. ورفعنا الاعناق صعادا» هو النشيد الذي تقشعر له أبداننا فخرا وعزا فحفظناه ونستذكره. كلمات تنير الطريق وكلمات يعيش فيها القائد بحضوره الأبوي.

لكن اهل عمان كانوا على موعد مع فجر اخر «فصافحنا الفجر بأحزان ونحيب ورفعنا الأيادي دعاء لفقيد» لم يكن فجرا عابرا وينجلي بل كان فجرا أليما مفجعا ونحن نودع «أعز الرجال وانقاهم» قائدا وجد ذاته في شعبه فأحبهم فبادله شعبه الصدق فوجدوا ذاتهم فيه فأحبوه وأخلصوا له» أهداهم العنفوان والكبرياء والشموخ» وذكرهم بالحب والوئام والتعايش ونشر السلام. يا له من فجر مؤلم. من الفجر انطلق حب عمان لسلطانها الراحل وبالفجر فجع العمانيون بفراقه ومن الفجر سلموا الأمانة لسلطان جديد.

هكذا ودعت عمان سلطانها بهدوء وصمت مهيب دون ضجيج او نحيب صارخ بل كتموا ما في القلوب. فظل الحزن صامتا في المنازل. فحتى في الموت نخلو من الضجيج. ودعت سلطانا فتطوي عمان الارض والدولة والشعب صفحة معطرة بسيرة عظيمة ستحفظها الذاكرة العمانية.

من حق العمانيين جميعا الحزن على فراق السلطان لقد ولدوا وعاشوا تحت كنف رعايته وعطفه وعدله وبعضهم عاصر عهدين من عهود عمان وشاهد التحولات الجذرية التي احدثها مولانا السلطان الراحل.
اتشحنا بالسواد في يوم عظيم ولف الحزن قلوبنا وبكت عيوننا واعتصر ألم الفراق أبداننا فقد كان فجرا قاسيا في موسم من أجمل مواسم عمان هو يوم على فراق عزيز على القلوب فلم يكن خوفا على عمان فعمان مصانة بحفظ الله ثم برجالاتها وبالقواعد الراسخة التي ارساها جلالة مولانا السلطان طيب الله ثراه بل كان حزنا على الوداع والفراق الأليم لقد كان من الصعب أنتزاع حضوره من قلوب اهل عمان.
لم يقدس العمانيون يوما السلطان الراحل فلم يبجلوه او يرفعوه الى درجة القداسة-لا سمح الله-فهم شعب مؤمن والقداسة لله فقط. لكنهم أحبوا السلطان واحترموه وقدموا له الولاء. هو احترام وحب ليس بوليد الفراغ وليس بوهمي او تحت تهديد الخوف والديكتاتورية والقمع او الدعاية الإعلامية المضللة للعقول. كلا بل ان الأفعال هي الفيصل في المحبة والكره لاختبار الحب والولاء فوجد العمانيون ذاتهم في السلطان ووجدوا عمان فيه. ولذلك حزنت عمان كلها على رحيله فالذهنية العمانية ارتبطت بجلالة السلطان.. سلطانا عادلا وساعيا للعدل فلا يقبل الظلم على أحد.

إن العدالة واضحة في هذا الوطن. في الجبال والسهول وبطون الاودية وفي الصحاري. في كل مكان سنجد عدالة القائد راسخة وينعم بها شعبه فقد كانت التنمية خير شاهد على عدالة القائد لشعبه.
رحل السلطان مورثا اهل عمان دولة متراصة البنيان وأبناء مترابطين ووطنا متوحدا من شماله الى جنوبه واستنهض لهم التاريخ والتراث في الخطاب العماني الداخلي..لم يكن ذلك دعوة للغرق في الماضي بل كان محفزا للعطاء والعمل فحينما تكبر عمان في عيون أبنائها عندها تكبر الامال والطموحات فتكبر الأعمال وتتحقق.

حرص جلالة السلطان الراحل في أيامه الأخيرة على الحفاظ على المناسبات الوطنية ورعايتها لاسيما الأعياد الوطنية وبالرغم من شدة المرض وآلامه المرة على جلالته إلا أنه حضرها ومنها الاحتفال الأخيرالذي أقيم بقاعدة سعيد بن سلطان البحرية. كان كما يبدو كأنه حفل الوداع الأخير.كان ظهورا أفرح الناس واحزنهم فقد كان الإعياء واضحا على جلالته إلا أنه كان يعلم في الوقت نفسه ان شعبه من حبهم له لا يتمنون لقائدهم أن يظهر منهكا. بل قويا متماسكا أرادوا ان يستأنسوا برؤيته. كان يدرك رحمه الله أن ظهوره غير متماسك ينهك شعبه بالأحزان. إنها لعلاقة تبادلية بين رجل وشعبه يفهم ويدرك كل منهم مشاعر الأخر.. المشاعر التي قرأها جلالته رحمه الله في قلوب شعبه الوفي وابنائه المخلصين وشعب يدرك مدى حب جلالته لهم وفخره بهم. لقد أورثنا وطنا أشبه بقصيدة شعر متناسقة. رحل عنا وقال «لاشيء لي. إنه لعمان وأهلها».

حسنا وبعد...ماذا نريد لعمان بعد رحيل جلالة السلطان طموحاتنا لا تتوقف وآمالنا لهذه الأرض لن تنتهي هكذا كان القائد يعلمنا في قصة بناء عمان ان الآمال الصادقة تتحقق والآمال الكاذبة تندحر وتذروها الرياح فلامكان على هذه الأرض للآمال الكاذبة.

حكم جلالة السلطان الراحل البلاد وغرس رمزية الحكم وطريقته فشعر في الحكم انه صاحب رسالة ولم يكن الحكم همه إلا لبناء عمان وتوحيد شعبه لمواصلة النهوض الحضاري الذي انقطع العمانيون عنه فجأة في حقبة مؤلمة فأعطى الحكم مفهوما واحدا انه العدل في الإدارة فتوحدت عمان تحت خطاب واحد لجميع العمانيين. فالمواطنون من خارج الاسرة الحاكمة يديرون بلادهم ويصونون عزها ويدافعون عنها ويعملون باخلاص وظلت الاسرة الحاكمة لها احترامها ولادخل لها من قريب او من بعيد في التدخل في حياة الناس من خلال الحكم او مزاحمة المواطنين من خلف مواقعهم وهذا مايلخص الاحترام الفائق التي تحظى به الاسرة الحاكمة ولهذا نقول للاسرة الحاكمة ان الحفاظ على هذا النهج لهو امرعظيم وليس بالسهل التفريط به.

لقد ألقت الأسرة الحاكمة الكريمة الدفء في قلوب أهل عمان حينما انحازت طوعا ومحبة وعرفانا الى وصية جلالة السلطان الراحل فشعر حينها أبناء الوطن بالأمان وسيسجل ذلك بعظيم النهج الذي سلكته الأسرة الحاكمة التي ارتضتها مكونات أهل عمان انها اسرة كريمة يقدرها الجميع ولها مكانتها في القلوب.

ومنذ عهد جلالة السلطان الراحل وتقلده مقاليد حكم هذه البلاد العريقة صار لها رمزا وطنيا واحدا في الحكم التف عليه الجميع فرسخ رسوخ جبال الحجر وسيرسخ الى أن يرث رب السماء الارض ومن عليها.
ان جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم-أيده الله-من المؤكد انه سيسير على خطى ثابتة في اصول الحكم العماني فالعمانيون شعب له تاريخ وحضارة في تداول الحكم ومعرفته وادارة بلادهم.ستواصل عمان انطلاقتها للمستقبل بقوة وعزم لايلين..ان هذه الانطلاقة بحاجة الى العزائم المخلصة وبسواعد أبنائها لنشق الطريق الصعب الى المستقبل في وقت يتنافس فيه العالم ليحجز مقعده في الثورة العالمية الرابعة والخامسة المقبلة ..هي الإرادة العظمى..ونحن نمتلكها ..فقط نحتاج الى انعاشها بقوة من جديد.

لترقد روحك مولاي بسلام

«حفظ الله عمان وجلالة السلطان»