الجامعة في فكر السلطان قابوس

مقالات رأي و تحليلات الاثنين ٢٤/فبراير/٢٠٢٠ ١١:٢٧ ص
الجامعة في فكر السلطان قابوس

د. محمد المشيخي

ًًالسلطان قابوس - طيب الله ثراه - ارتبط اسمه بالعلم والمعرفة في السلطنة منذ فجر السبعين،ولمدة خمسة عقود متواصلة. فقد رفع شعاره المشهور الذي يعرفه العمانيون جيدا صغيرهم وكبيرهم ؛ (سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل شجرة).

وبالفعل انتشرت مدارس التعليم العام في كل مدينة و قرية،بل في الجبال والصحاري العمانية المترامية الأطراف ؛ فالتعليم هو أثمن ما في هذا الكون ؛ لأنه استثمار في تنمية العقول، وإعلان الحرب بلا هوادة على الثالوث الذي كان سائدا في البلاد،قبل العهد القابوسي التنويري المتمثّل ؛ في الجهل والتخلف والمرض .

وفي نهاية العقد الأول من عمر النهضة العمانية المعاصرة ؛ فكر هذا القائد العظيم بإنشاء جامعة مكتملة الأركان،وذات مواصفات عالمية تستوعب مخرجات الثانوية العامة في ذلك الوقت،بدلا من السفر خارج السلطنة لتكملة الدراسة الجامعية.

فقد ذكر السلطان قابوس. - طيب الله ثراه - في كلمة من كلماته التاريخية الموجهة للمواطنيين العمانيين فكرة إنشاء جامعة السلطان قابوس، استشار السلطان في ذلك الوقت الوزراء والمستشارين في هذا المشروع الطموح. حاول هؤلاء إقناعه أوثنيه عن الفكرة ، ونصحوه باستمرار بعث الطلاب للجامعات الأجنبية. ولكنه يرحمه الله قال : « قررت المضي قدما،وتوكلت على الله ؛ وأمرنا بإطلاق المشروع «. وقد وضع حجر الأساس بنفسه عام 1982م .

وهكذا تحولت الفكرة إلى حقيقة على أرض الواقع بعزم أعز الرجال وأنقاهم ؛ بافتتاح الجامعة عام 1986. وكانت تضم خمس كليات،وخمسمائة طالب. وتحقق بذلك حلم كل عماني بأول جامعة عمانية في التاريخ ، ثم تضاعف أعداد الطلاب المقيدين في الجامعة إلى حوالي 17 الف طالب وطالبة ؛ موزعين على تسع كليات.

وكما هو معروف من أولويات اي جامعة في العالم القيام بثلاث وظائف رئيسية ؛ التعليم،وتخريج أجيال المستقبل لرفد الوطن بالكوادر المدربة والمؤهلة لخدمة قطاعات التنمية المختلفة. وفي هذا المقام أشاد السلطان الراحل بطلبة جامعة السلطان قابوس وقال : إنني أفتخر وأفاخر بكم. وهذه إشادة عظيمة بمخرجات هذه المؤسسة وتحقيق طموح مؤسسها. أما الوظيفة الثانية للجامعة فهي الاهتمام بالبحث العلمي الرصين ؛ المتمثل في تقديم الاستشارات البحثية؛ للوزارات والهيئات الحكومية، وشركات القطاع الخاص ؛ بهدف تقديم الحلول للمعوقات التي تواجه هذه القطاعات الخدمية، وتحسين أدائها. وبالفعل حظيت جامعة السلطان قابوس بالاعتماد من الحكومة ؛ وأصبحت بيت خبرة منذ سنوات طويلة. وقد تبرع السلطان المحب للبحث بخمسمائة ألف ريال عماني سنويا لموازنة البحث العلمي في الجامعة ؛ إيمانا منه بأهمية الدراسات العلمية،وتشجيع الباحثين على الإنتاج الفكري.

وتتمحور الوظيفة الثالثة للجامعة في خدمة المجتمع عن طريق تقديم المحاضرات العلمية،والتدريب المستمر للمدارس والشركات، والمؤسسات الحكومية ؛ لتأهيل الطلبة و الموظفين و المواطنين، وتزويدهم بآخر المستجدات العلمية؛المتمثلة في البرامج القصيرة، والدورات الفصلية التي تعقد في رحاب جامعة السلطان قابوس ؛ ممثلة بمركز خدمة المجتمع والتعليم المستمر. كذلك قيام طلبة الجامعة وأساتذتها بحملات نوعية في المدن والقرى العمانية ؛ كبرنامج التوعية وتنظيف الشواطئ ، وغيرها من الأعمال الإنسانية..

لقد أبدع السلطان الراحل في تخطيط مباني هذه الجامعة الشامخة، وأجاد في رسم قاعاتها الرحبة وحرمها الفريد ، الذي يميزها عن غيرها من جامعات العالم في الشرق والغرب. إنها بحق لوحة معمارية بكل المقاييس، يجعل من هذه الجامعة تتميز في طلابها، وحرمها الجامعي،ومكتباتها وبرجها العالي،وكذلك أساتذتها . وقد تشرفت أن أكون أحد منتسبيها لأكثر من عقدين من الزمن،ثم عاودني الحنين إليها مرة أخرى أستاذا زائرا ؛ بعد مرور عامين على استقالتي.
فهذه الجامعة العريقة التي تحمل اسم (السلطان قابوس ) ؛ هذا الزعيم الخالد الذي أراد لهذه الجامعة أن تكون منارة للفكر والمعرفة ؛ لتنهل من علمها الأجيال ؛ هي مصدر فخر واعتزاز لكل من ينتسب إليها من الأكاديميين والطلبة على حد سواء.
فقد اختار السلطان الراحل - طيب الله ثراه - منبر الجامعة لمخاطبة شعبه في مايو عام 2000م. إذ يتذكر الجميع نطقه السامي عندما قال : « مصادرة الفكر والتدبر والاجتهاد هذه من أكبر الكبائر، ونحن لن نسمح لأحد أن يصادر الفكر أبدا». كما دعا السلطان الراحل العلماء؛ للاجتهاد والبحث والتدبر في العلم، والاطلاع على الثقافات الأخرى،بعيدا عن الجمود والتعصب؛ فالدين الحنيف يشجع على الانفتاح وتقصي الحقائق.
من هنا أثمن الدعوة الكريمة لي من الزملاء في الجامعة لتدريس مقرري الإعلام الدولي ووسائل الاتصال في الخليج العربي ، وتكمن أهمية و متعة تجربة التدريس هذه المرة بالنسبة لي في التفرغ الكامل للمحاضرات، والإعداد الجيد للمادة العلمية ؛ بعكس أيّام الدوام الإداري والاجتماعات الطويلة للجان والمجالس في الجامعة ؛ فكنا نأتي للقاعات منهكين ومتعبين، ولا نشعر بمتعة الأجواء الأكاديمية الجميلة للمحاضرات ذات النقاشات المتبادلة مع الطلبة. كما أن أحد هذين المقررين الذي يحمل عنوان (وسائل الاتصال في الخليج) يعتمد على كتابي (إلاعلام في الخليج العربي؛ واقعه ومستقبله ) كأحد المراجع الأساسية لهذا المقرر .
فهذا الكتاب يدرس في جامعة الكويت،وبعض الجامعات الخليجية الأخرى منذ الطبعة الأولى لإصداره ، بالإضافة إلى جامعة السلطان قابوس.
وقد تشرفت بإهداء نسخ من طبعات الكتاب؛للعديد من المفكرين والمثقفين في السلطنة والخليج العربي؛ يأتي في مقدمتهم حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم-حفظه الله ورعاه- ، عندما كان وزيرا للتراث والثقافة. وفي إطار تشجيعه للباحثين والكتاب سطر جلالته هذه الكلمات المعبرة : « تلقينا بالشكر والتقدير ، إهداءكم لنا كتاب (الإعلام في الخليج العربي واقعه ومستقبله ). وهو يحمل معلومات ثرية حول أهمية وسائل الإعلام في الدول الخليجية بشكل عام، وفي السلطنة بشكل خاص،إلى جانب دور الإعلام المتميز في التنمية الوطنية،مثمنين لكم هذا الجهد العلمي...»
كذلك تشرفت بإهداء نسخة من الطبعة الأولى لمعالي عبد الرحمن العطية الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية ( السابق ) الذي قال عن الكتاب : « أودّ أن أتقدم لكم بالتهنئة للمضامين الشاملة التي تناولتموها بالبحث والتحليل في هذا الإصدار الهام ؛ بأسلوب مهني متميز ، وبمنهجية بحث علمي متطور ؛ يشخص واقع الإعلام في دول مجلس التعاون، ويستقرئ مستقبله في دراسة علمية دقيقة سخرتم فيها خبراتكم العلمية العريقة،وكفاءتكم العلمية والأكاديمية القديرة «.
وأختم مقالي هذا ؛ أني على يقين بأن أبناء هذا الوطن العزيز من مسندم إلى ظفار وعلى وجه الخصوص طلبة ومخرجات هذه الجامعة ؛ سيظلون على العهد أوفياء لمؤسس هذا الصرح الشامخ ورائد النهضة التعليمية في عمان. كما وجب تذكير الجميع من أبناء هذا الوطن بالوقوف صفا واحدا لخدمة الوطن الغالي تحت قيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه.