تطلعات وطنية

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٧/فبراير/٢٠٢٠ ١١:٥٥ ص
تطلعات وطنية

د. صالح بن سعيد مسن

تنويه: هذا المقال تم إرساله للنشر بعنوان (هواجس وطنية) في نفس اليوم الذي ورد فيه الخطاب السامي. وبما أن مضامين الخطاب السامي استبقت طموحاتنا فقد تحولت هواجسنا إلى تطلعات وطنية وبرنامج عمل لخارطة طريق المستقبل؛ ولذلك تم تغيير العنوان ليتم نشره تحت عنوان (تطلعات وطنية).

لعل التحدي الاقتصادي يعتبر الأكثر تعقيداً بالنسبة للسلطنة خلال المرحلة الحالية وذلك بسبب طبيعة الإقتصاد العماني الذي يعاني في تركيبته الإنتاجية من مجموعة من الإختلالات الهيكلية مما بطأ عجلة التنويع الإقتصادي، كما ظلت الكثير من المشكلات الإقتصادية طيلة السنوات الماضية دون معالجات جذرية طويلة المدى بل يتم في كثير من الأحيان اللجوء إلى المسكنات العاجلة والمعالجات الطارئة التي تهدئ الألم مؤقتاً وتفاقم المشكلة مستقبلاً. وعلى المستوى الإداري ظل الهيكل التنظيمي للدولة يزداد ترهلاً وبيروقراطية، وعوضاً عن ترشيق الجهاز الإداري للدولة تم القفز خطوات للأمام من خلال إيجاد منظومة موازية لا تختلف كثيراً عن بيروقراطية الجهاز الإداري إلا من خلال تدثرها بمسمى جديد يسر السامعين وأعني بذلك الشركات الحكومية، التي أصبحت اليوم أكثر عبئاً على موازنة الدولة وأقل إنتاجية مقارنة بمؤسسات القطاع الخاص وذات قيمة مضافة متواضعة للإقتصاد الوطني. وازداد الأمر تعقيداً مع تدهور أسعار النفط خلال الست سنوات الماضية لأكثر من 60% مما أدى لتراجع المركز المالي للدولة وإرتفاع الدين العام لأكثر من عشرة أضعاف خلال الخمس سنوات الأخيرة لتصل نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 52.9% في 2019 وتراكم العجوزات العامة خلال نفس الفترة ليصل العجز التراكمي بنهاية عام 2019 إلى 20.4 مليار ريال عماني مما أدى إلى تراجع التصنيف الإئتماني للسلطنة لمستويات متدنية وفي نفس الوقت تراجع الترتيب العام للسلطنة في مؤشرات التنافسية العالمية لعام 2019 بنحو 6 مراكز عن العام 2018 لتحل السلطنة في المرتبة 53 عالمياً. بالإضافة إلى ذلك ظل الركود الإقتصادي يتعمق في بعض القطاعات الإنتاجية بشكل كبير فتزايد عدد المسرحين والباحثين عن عمل لمستويات غير مسبوقة مشكلين بذلك ضغطاً متزايداً على صانع القرار الإقتصادي لإتخاذ قرارات عاجلة لتفادي التداعيات الإقتصادية والإجتماعية والأمنية لتزايد أعداد الباحثين عن عمل.

ومن المربك أن تحدث جميع هذه التداعيات في الوقت التي تتلمس فيه السلطنة طريقها للإنتقال من دولة الرعاية الإجتماعية إلى إقتصاد السوق الحر ورفع مساهمة الإيرادات الضريبية في رفد الموازنة العامة للدولة. ولا شك أن التحول من دولة الرعاية الإجتماعية إلى دولة إنتاجية يستدعي أن يسبقها ترسيخ ثقافة الحوكمة وتفعيل مبادئ العدالة والمحاسبة والمساءلة ورفع مستوى الشفافية في جميع العمل المؤسسي على المستوى الوطني العام. ومما لا ريب فيه أن هذا التحول الإقتصادي سيكون أكثر يسراً وأقل تكلفة إقتصادية.
إن العقبات مهما تعاظمت تظل صغيرة أمام الإرادة الوطنية الصلبة والقيادة السياسية الواعية التي توظف جميع الإمكانيات لتحقيق الأهداف الإستراتيجية العليا للبلاد. ولا يخالطنا أدنى شك ونحن نستقرئ المرحلة القادمة من خلال مضامين الخطاب السامي الثاني لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق-حفظه الله ورعاه- أن عمان سوف تتجاوز جميع التحديات بكل جسارة وستدخل إقتصاد المعرفة متسلحة بالعلم ومسخرة جميع طاقات شبابها وإبداعاتهم وإبتكارتهم للإستفادة من تقنيات الثورات الصناعية الرابعة والخامسة بكل كفاءة لتخطو نحو المستقبل بخطوات ثابتة ورؤية ثاقبة.
وما أحوجنا اليوم ونحن على أعتاب الخطة الخمسية العاشرة وقبل إنطلاق الرؤية المستقبلية 2040 إلى مراجعة ترتيب أولوياتنا الوطنية بشكل دقيق وإصلاح الهياكل التنظيمية للدولة لتكون أكثر رشاقة وديناميكية وإصلاح المنظومة الإقتصادية لتكون أكثر تنوعاُ وإنتاجية لإيجاد إستدامة إقتصادية طويلة المدى وتحسين بيئة الأعمال وتسهيل منظومة الإجراءات لتكون جاذبة للإستثمارات الأجنبية وإصلاح السياسة المالية والضريبية لتكون محفزة للنمو الإقتصادي وموجهة للنفقات العامة بكفاءة ومسؤولية وإدارة الدين العام بحصافة للمحافظة على الإستقرار المالي وإصلاح المنظومة التعليمية لتكون متواكبة مع المتغيرات العالمية والثورات التكنولوجية المتعاقبة لتكون مخرجات التعليم متوائمة مع متطلبات سوق العمل، وذلك لنبدأ الرؤية المستقبلية 2040 على أرضية صلبة وقواعد متينة وسط بيئة محفزة للإبداع والإبتكار والإنتاج وممكنة للكفاءات العمانية الشابة.
إن تطبيق حزمة الإصلاحات الإقتصادية لابد ان تأخذ في الاعتبـار طبيعة وهيكل الإقتصاد العماني وتحديات المرحلة وأولوياتها علـى ضوء حجم الدخل القومي وطريقة توزيعه والتركيب النـوعي والعـددي للبنيـة الاقتصادية وبما يتناسب مع طبيعة الهيكل الإجتماعي والسياسي للسلطنة. والسؤال الأهم هنا هو هل من المناسب تقديم مجموعة إصلاحات إقتصادية شمولية أم الأجدى تقديم حلول مجتزئة والتدرج في تقديم هذه الإصلاحات؟ في الواقع تشير بعض الدراسات العلمية إلى أن تقديم حزمة إصلاحات إقتصادية متكاملة تأخذ في الحسبان التوازن بين تحقيق الأهداف الكلية والتأثيرات الإقتصادية والإجتماعية من خلال سياسة إقتصادية معتدلة هي الأصلح للكثيرمن الدول النامية التي تقوم بإصلاحات إقتصادية لتنويع مصادر دخلها والحفاظ على نموها الإقتصادي بنسب ثابتة.

وإذا سلمنا جدلاً بأهمية الإصلاح الإقتصادي الكلي دفعة واحدة فالسؤال المطروح: ما هو التوقيت الأمثل للشروع في مثل هذا الإصلاحات دون أن تكون لها إنعكاسات سلبية على الإقتصاد؟. بالطبع من المسلمات الإقتصادية إختيار الوقت الأنسب لتطبيق الإصلاحات الإقتصادية للتقليل من تأثيراتها الإقتصادية وأحد العوامل الرئيسية في عملية الإختيار هو القبول المجتمعي لهذه الإصلاحات. وأعتقد جازماً أن المرحلة الحالية هي الأنسب لتقديم مثل هذه الإصلاحات الهيكلية لأن المجتمع في حالة ترقب كبير لملامح المرحلة المقبلة وأكثر تقبلاً للتحول الإقتصادي مع الدفعة المعنوية الإيجابية التي يستلهمها الشعب من سلطانه الأمين ومهندس رؤيته المستقبلية الذي رفع لديهم حجم الطموح والآمال للوصول بعمان لمصاف الدول المتقدمة كما أشارت لذلك الرؤية 2040. ولذلك تعتبر مثل هذه الإنتقالات التاريخية التي ترتفع معها سقف التطلعات الوطنية والقبول الشعبي العام فرصة تاريخية سانحة للدفع بإصلاحات هيكلية شاملة وإجراء تحولات إقتصادية كبيرة شريطة أن يسبق ذلك توعية كبيرة ليكون هناك توافق مجتمعي يسند القيادة في التحول للمرحلة القادمة بكل يسر وسهولة. إن الجميع اليوم مطالب أكثر من أي وقت مضى أن يعاهد الله على تكريس حياته للعمل من أجل عمان كما عاهد جلالته الله على ذلك والوقوف صفاً واحداً خلف قيادة سلطان عمان الأمين ومهندس رؤية 2040 لتحقيق الغايات العظمى والمراتب العليا والإنتقال بعمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات كما أشار جلالته لذلك في خطابه السامي.