محنة السلطة الرابعة

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ١٨/مارس/٢٠٢٠ ١١:٠٩ ص
محنة السلطة الرابعة

د.محمد بن عوض المشيخي

الصحافة هي رسول السلام، وضمير الأمة ومرآة المجتمع وممثل المظلومين لكونها المنبر الذي ينقل الأخبار والمعلومات والثقافة والتراث للأجيال المتعاقبة، وكذلك هي المراقب لأحوال الشعوب ومعاناتهم ومصيرهم من جور الحكومات الدكتاتورية والاستبدادية عبر التاريخ. وقد خطت بعض المجتمعات المثقفة والحرة خطوات إلى المعالي والتقدم والازدهار بفضل دور الصحافة التنويري. فالصحافة وسيلة من وسائل النهوض والرقي بالفكر الإنساني إلى غاياته السامية.

وهناك من يقول: إذا تريد أن تعرف حقيقة أي شعب من الشعوب، فعليك أن تعرف ماذا يقرأ؛ وذلك من خلال الاطلاع على الصحف الصادرة في الصباح في ذلك البلد، لأن مضامينها تعكس المستوى الثقافي والسياسي والإنساني للمجتمع الذي يحتضن مثل تلك المطبوعات.

من هذا المنطلق، تعددت أسماء الصحافة وتنوعت في مجالاتها المهنية الرائدة؛ فهناك من يطلق عليها، صاحبة الجلالة، ومهنة المتاعب، والسلطة الرابعة. وقد ظهر مصطلح السلطة الرابعة (Fourth Estate) لأول مرة في القرن الثامن عشر، إذ أعلنه الكاتب والسياسي الايرلندي (إدموند بروك) في إحدى جلسات مجلس العموم البريطاني، بقوله:
«ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف في البرلمان لكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعاً» والمقصود بالسلطة الرابعة بالطبع، القوة التي تتمتع بها الصحافة في التأثير على الشعب الذي يفوق السلطات الأخرى؛ الحكومة والبرلمان والسلطة القضائية وهذا التوصيف ينطبق بالدرجة الأولى على الحكومات التي تحترم حرية التعبير، والشعوب المتعلمة التي تقدر الرأي والرأي الآخر. وتقوم وسائل الإعلام بشكل عام والصحافة بشكل خاص بمهام قيادية في تشكيل الرأي وتوجيهه في قضايا معينة، كالتي تحظى بتغطية متكررة واهتمام خاص من قبل الإعلاميين والصحفيين. كما أن للإعلام وظيفة أصيلة في مجال استقصاء الحقائق والبحث عن المعلومات والحصول عليها من مصادرها، وخلق القضايا والقصص الإخبارية التي تهم الرأي العام.

ومن هنا أتذكر المقولة التاريخية للرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية توماس جفرسون عن أهمية الصحافة للدول والشعوب، إذ قال: «إذا طلب مني أن أختار لأميركا واحد من اثنين؛ حكومة أو صحافة حرة لن أتردد في اختيار الثانية.»

وعلى الرغم من الدور الريادي للصحافة الورقية وما تتمتع به من سجل حافل وتاريخ عريق عبر القرون الفائتة، إلا أنها تتعرض اليوم لتحديات غير مسبوقة ومنافسة شرسة من الإعلام الرقمي. وقد تجلت هذه المنافسة خلال السنوات الفائتة بتساقط قلاع إعلامية مرموقة، وإغلاق مؤسسات صحفية ذات سمعة عالية، وذلك نتيجة للتطورات المتلاحقة لتكنولوجيا والثورة المعلوماتية التي تشكل عمودها الفقري الإنترنت وتوابعها كالشبكة العنكبوتية التي تحتضن ما يعرف بالإعلام الجديد. ومن أشهر الصحف التي توقفت عن الصدور ورقيا في العالم العربي: صحيفة (الحياة) التي تعد درة الصحافة العربية، وقبل ذلك توقفت العديد من الجرائد اللبنانية الشهيرة؛ كصحيفة (السفير) وصحيفة (الأنوار) وصحيفة (المستقبل)، بينما توقفت في مملكة البحرين كل من صحيفتي (الوقت، والميثاق). عالميا توقفت صحيفة (The Independent) البريطانية، ومجلة (Newsweek) الأمريكية بعد أن بلغت خسائرها أكثر من ثمانين بالمائة من دخلها.

عمانيا احتجبت صحيفتي (الشبيبة والوطن) عن الصدور يومي الجمعة والسبت مؤخرا. كما توقفت خلال السنوات الفائتة 4 إصدارات للمؤسسة العمانية للصحافة والنشر التي تصدر جريدة الوطن وهي Oman Tribune اليومية، فتون، آفاق اقتصادية والملاعب. لعل المشكلة الكبرى التي تواجه صحفنا المحلية؛ ترجع إلى انخفاض وتراجع دخل الصحف الورقية من الإعلانات التجارية بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية التي كانت تشكل أكثر من سبعين بالمائة من إيراداتها المالية، وكذلك عزوف الجمهور عن القراءة والمطالعة لهذه الصحف لوجود خيارات أخرى كوسائل التواصل الاجتماعي والنشر الالكتروني الذي أصبح متوفرًا عبر شاشة الهاتف الذكي بأقل التكاليف.. بالإضافة الى ما سبق ذكره؛ تخضع الصحف العمانية لقانون المطبوعات والنشر الذي صدر 1984م، إذ يعد هذا القانون الأقدم في دول المنطقة؛ كما أنه غير مناسب لهذه المرحلة مما ترتب على ذلك تجنب الصحفيين تناول ما يعرف بالتحقيقات الرصينة؛ والتي تعرف بالصحافة الاستقصائية والتي يمكنها أن ترجع الحياة للصحافة العمانية في ظل التنافس الشديد بين الإعلام القديم والجديد. فالقانون الجديد إذا صدر يفترض أن يوفر حماية للعاملين في قطاع الإعلام، ويسمح بالتدفق المعلومات من الوزارات والهيئات الحكومية بدون قيد أو شرط ؛ لكي لا تظل الموازنات والخطط الاستراتيجية حبيسة أدراج الحكومة.

وإذا كنا جميعا نثمن الرسالة السامية للصحافة وما تقدمه من وظائف إعلامية وتوجيهية وتربوية للمجتمع العماني منذ فجر السبعين؛فليس من الواجب حاليا أن ندير ظهورنا وننسى جيل الرواد من الصحفيين في هذا البلد العزيز الذين ضحوا من أجل رفعة شأن الوطن في السنوات الأولى للنهضة العمانية. وفي هذا المقام وجب الإشارة إلى المرحوم عيسى بن محمد الزدجالي الذي أسس أول صحيفة ناطقة باللغة الإنجليزية في السلطنة عام 1975 وهي صحيفة (TIMES OF OMAN) والذي يقول عن فكرة الاصدار: «كنت موظفا في وزارة الخارجية حيث وصلتني رسالة تلكس من شركة طيران أميركية مقرها سنغافورة وكان معنونا كالآتي:(وزارة الخارجية – مسقط – عمان – المملكة العربية السعودية ). ويضيف مؤسس (التايمز أوف عمان) قائلا: أدركت أن القصور من جانبنا وليس من الآخرين الذين لا يملكون أي قدر من المعلومات عن السلطنة ومن لحظتها جاءت فكرة إصدار صحيفة باللغة الإنجليزية للتعريف بالنهضة المعاصرة التي تشهدها البلاد.
وقبل ذلك بسنوات قليلة ظهرت أول صحيفة ناطقة باللغة العربية في السلطنة متزامنة مع وصول -السلطان قابوس طيب الله ثراه- إلى سدة الحكم، وذلك على يد المرحوم نصر بن محمد الطائي الذي يعد الرائد الاول للصحافة العمانية. وقد كتب الطائي افتتاحية العدد الأول من (الوطن) قائلا: « بسم الله تعالى وعونه أخط أول حرف أستعين به عز وجل في إصدار أول صحيفة في هذا البلد العزيز» .
وفي الختام من الواجب والضروري على المسؤولين عن قطاع الثقافة والإعلام في السلطنة عدم ترك الصحف العمانية لمصيرها المحتوم، بل يجب التدخل بأسرع وقت ممكن لإنقاذ هذه المؤسسات من خلال وضع استراتيجية وطنية لدعم الصحف الورقية والإلكترونية على حد سواء؛ بهدف إيقاف تسريح العاملين فيها من الصحفيين العمانيين.
وقد قيل قديما، إغلاق صحيفة من الصحف يوازي توقف جامعة أو مدرسة عن استقبال طلابها.

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري.

د. محمد بن عوض المشيخي