الدعاية والشائعات في أوقات الأزمات

مقالات رأي و تحليلات السبت ٢٨/مارس/٢٠٢٠ ٢٣:٤٩ م
الدعاية والشائعات في أوقات الأزمات

د. محمد بن عوض المشيخي

عرف الإنسان الدعاية واستخدمها منذ وجد في هذا الكون للتأثير على نفسيات غيره من أبناء جنسه خاصة المنافسين والخصوم. فتعد الشائعات التي كانت ولا تزال يتناقلها الناس عبر الألسن بشكل سري من أخطر الرسائل التي تدمر الشعوب المستقرة ، والبيوت الآمنة وذلك لما تحمله هذه الأكاذيب من مضامين هدامة وأفكار شيطانية، لكونها تعمل خلف الستار وتنفذ من قبل جنود مجهولي الهوية من أعداء الوطن الذين يهدفون إلى زعزعة الأمن الاستقرار وتحطيم الروح المعنوية للمجتمع من الداخل؛ خاصة في أوقات الأزمات والأوبئة الفتاكة والحروب.
والإشاعة فرع من فروع الدعاية وهي عبارة عن "رواية تحتمل الصدق أو الكذب وتنتشر بين الناس عن طريق الكلام الشفهي". وقد تطورت الأساليب المستخدمة في نشر الشائعات في هذا العصر التكنولوجي؛ من قنوات الاتصال الشخصي التي كانت تستخدم قديما كالنقل الشفهي للروايات التي تحمل كلمات مختصرة، وكذلك توزيع المنشورات ذات الطابع السري في المدن والقرى، إلى المنصات الرقمية المتمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي والمدونات الإلكترونية وغيرها من التطبيقات والبرامج التي تزخر بها الشبكة العنكبوتية. فتقوم بكشف الممارسات اليومية للمجتمعات المعاصرة وخاصة الشباب في السلطنة ودول العالم، كالعلاقات الحميمة بالهواتف الذكية والحواسيب الإلكترونية، حيث يقضي الانسان ساعات طويلة أمام هذه الشاشات، مما ينذر بعواقب وخيمة في مجال بث الدعاية والمعلومات الخاطئة التي يتم تداولها على نطاق واسع عبر المنصات الافتراضية خاصة (واتساب). فهذه الوسيلة الحديثة؛ تتميز بسهولة الاستخدام وتتوفر فيها القدرة على التكبير وفبركة الصور، وسرعة نشر الأخبار والمعلومات، وكذلك وترويج الأكاذيب والشائعات.
وقد أظهر استطلاع للرأي للعمانيين حول استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، الذي قام به المركز الوطني للإحصاء والمعلومات مؤخرا؛ أن نسبة 94% من المواطنين العمانيين يمتلكون أو يستخدمون حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، وأكثر هذه الوسائل انتشارا هي تطبيق (واتساب) الذي يستخدمه 93% من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يأتي (اليوتيوب) في المرتبة الثانية بين العمانيين بنسبة 71%، واحتلت منصة (الإنستجرام) المرتبة الثلثة بنسبة 50%.
ويمكن الاستدلال هنا بإحدى الدراسات التي أجريت في جامعة السلطان قابوس قبل عدة سنوات عن الشائعات في السلطنة. فقد كشفت تلك الدراسة عن أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي تنقل 90% من الشائعات في السلطنة، بينما تقوم القنوات الشخصية التقليدية بنقل 10% من الشائعات فقط، وهذا يكشف انقلاب الموازين وسيطرة هذه الوسائل الجديدة على الساحة الجماهيرية. أما عن دوافع نشر الشائعات في المجتمع العماني، فقد ذكر 70% من أفراد العينة الذين شملهم البحث أن الفراغ، والجهل هما السببان الرئيسيان وراء نشر النميمة والشائعات، بينما أرجع 30% من المبحوثين إلى الكراهية والانتقام من كبار المسؤولين في الدولة، ويرى 10% من أفراد العينة أن الدافع هو التباهي.
وفي هذه الأيام العصيبة التي تمر بها السلطنة والعالم أجمع تعج المواقع والتطبيقات الإلكترونية بالكثير من الشائعات والقصص الخيالية بهدف النيل من هذا البلد العزيز، فمنذ بداية أزمة فيروس كورونا تابع المجتمع من مواطنين ومقيمين باستهجان بالغ الكثير من الشائعات التي خرجت من خلف الستار لغرض التشويش وتضخيم عدد الإصابات بالفيروس في السلطنة، إذ هناك من يزعم أنه تم تسجيل أكثر من 5000 حالة مؤكدة في مختلف أرجاء البلاد، بينما يقوم البعض بنشر خبر منسوب كذبا لوكالة الأنباء العمانية مفاده الموافقة على منح القطاعين العام والخاص إجازة رسمية لمدة أسبوعين.
ونشر الشائعات لم يكن مرتبطا بجائحة كورونا الحالية، بل مسلسل الحملات المغرضة مستمر منذ سنوات مضت، كمزاعم انتشار (الحمى القلاعية) في محافظة ظفار بهدف التأثير على الموسم السياحي، وكذلك إطلاق شائعات عن وجود مرض (الحمى النزيفية) في شمال السلطنة. أما خليجيا فهناك محاولات جادة من الذباب الإلكتروني لاستهداف الرأي العام العماني والتشويش عليه من أجل التأثير على مواقف الحكومة المتعلقة بالقرارات السيادية للسلطنة في بعض بعض القضايا الخارجية ومنها حرب اليمن، ثم اتهامها زورا بتهريب السلاح لإنصار الله عبر المنافذ البرية، والموقف من الاتحاد الخليجي، وكذلك، دور السلطنة في الاتفاق النووي بين إيران والغرب.
ولا يمكن لنا الكتابة عن الدعاية والشائعات بدون ذكر الأسباب الحقيقية التي تقف وراء مثل هذه الامراض الاجتماعية المدمرة، فقد كنت طالبا لمدة أربع سنوات في بريطانيا، ثم عملت لاحقا أستاذا زائرا في جامعة (َQueensland) الأسترالية ولم أسمع يوما عن خبر كاذب خلال تلك الفترة، بينما تجد الشائعات في المجتمعات العربية بيئة خصبة للانتشار، والسبب في ذلك يعود إلى عدم وجود نظام أو قنوات مفتوحة تسمح بتدفق المعلومات والأخبار مباشرة للرأي العام؛ بدون وجود حراس بوابات؛ إذ يعمل هؤلاء الحراس جاهدين على محاصرة وسائل الإعلام ومنعها من الحصول على الأخبار عند وقوعها، وفي نفس الوقت نجدهم يمتنعون حتى عن نفي الشائعات بزعم أن كل شيء في البلد على ما يرام. وهناك مقولة شهيرة تقول: "إذا اختفت الحقيقة انتشرت الشائعة". والشائعات بشكل عام تنتشر على نطاق واسع في المجتمعات البدائية التي تعاني من الأمية، ذلك بسبب عدم التدقيق والبحث عن مصدر المعلومة. وفي علم الاتصال الجماهيري، هناك قاعدة علمية عددية تحكم آلية انتشار الشائعة، وتتجسد في عنصرين أساسيين هما؛ الغموض والأهمية، فإذا لم تكن للشائعة المتداولة أهمية تذكر في النواحي الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمنية، فإن الغموض وحده لا يعتبر كافيا لإحداث الشائعة ونشرها في الآفاق. وهكذا إذا افترضنا أن الغموض أو الأهمية صفر؛ فلن تكون هناك شائعة؛ وعليه فإن خفض درجة الغموض أو الأهمية أو كليهما يقلل من شأن وقوع الشائعة.
وفي هذا المقام وجب الإنصاف وقول كلمة حق في الخطوة الموفقة لوزارة الصحة التي كانت في مستوى هذا الحدث الخطير لحظة الإعلان عن اكتشاف حالتين بفيروس كورونا في السلطنة، إذ ظهر وزير الصحة على جناح السرعة إلى استوديو أخبار العاشرة بعد ساعات من اكتشاف الإصابات للحديث مباشرة إلى العمانيين بصراحة وشفافية. وهي خطوة لا شك تحسب للحكومة ؛ لأننا تعودنا من بعض المسؤولين التأخير أو الامتناع عن تزويد وسائل الإعلام بالمعلومات الضرورية عند وقوع مثل هذه الأحداث الهامة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الشائعات تختلف عن الدعاية من حيث حجم الرسائل وطريقة ايصالها للجمهور المستهدف؛ لذا سنتناول في المقال المقبل بمشيئة الله استراتيجية الدعاية بأنواعها السوداء والبيضاء والرمادية.
وختاما نقول من باب التذكير إن الوطن أمانة في أعناقنا جميعا، إذ لا سبيل لنا إلا التكاتف والتعاضد؛ فالمسؤولية مشتركة والخطب واحد. وعلينا أن نستعظم ما قدمه لنا هذا الوطن من الحقوق؛ فلو لم يكن له فضل علينا إلا الأمن والطمأنينة التي ننعم بها بين ربوعه لكان ذلك كافيًا.
فلا يستحق منا الوطن وهو واقع بين أزمتين طاحنتين؛ هما وباء كورونا، وانهيار أسعار النفط إلى ما دون النصف.أن ندير له ظهورنا في هذه الأيام الصعبة، فعلى كل مواطن أن يكون حارسا أمينًا على المنجزات الحضارية التي تحققت في هذا البلد العزيز؛ ونقول جميعا بصوت واحد لا للشائعات.

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري