مرحلة ما بعد "كورونا"

مؤشر الأحد ٢٩/مارس/٢٠٢٠ ٠٠:٤٥ ص
مرحلة ما بعد "كورونا"

محمد بن محفوظ العارضي

بعد أن وصفت منظمة الصحة العالمية انتشار فيروس "كورونا" المستجد بأنه جائحة عالمية، تفاقمت حالة عدم اليقين على مستوى العالم، ما ترك أثاراً قوية على اقتصادات الدول وأحدث تغيرات كبيرة في أنماط الاستهلاك وموازين العرض والطلب.
ومن أبرز تلك التغيرات في منطقة الخليج العربي هو تراجع النفط. فلننظر إلى حظر السفر من أوربا الذي فرضه الرئيس الأمريكي ترامب مؤخراً في ظل تدهور عام للأسواق العالمية، على سبيل المثال. لقد كان وقع الخبر في حد ذاته مصحوباً بانخفاض شديد لأسعار النفط في المنطقة والعالم.
ولكن مع تطور الطب وتزايد حس المسؤولية الجماعية تجاه الوباء بعد انتشاره عالمياً، لا شك أن العالم سيتدارك الأمر على المستوى الصحي. أما على الصعيد الاقتصادي، فستكون الدروس المستفادة عديدة والعبر المأخوذة من تلك الواقعة مُلّحة.
بشكلٍ عام، هكذا هو حال الحياة، لا مفر من وقوع الأزمات بين الحين والأخر، وقد شهدت اقتصادات العالم فيما سبق أزماتٍ لا حصر لها، سواء كانت ذات خلفية مالية أو سياسية أو صحية أو إدارية وغيرها. ويبقى حل كل أزمة دائماً، بغض النظر عن طبيعتها، في الاستعدادية. مرونة المنظومة الاقتصادية مطلوبة دائماً، ولا قدرة على البقاء دون قدرة على التكيف، وينطبق هذا المبدأ حتى على أصغر المشاريع التجارية في أي نظام اقتصادي.
لا وقت لأي شكل من أشكال البيروقراطية في ظل الظروف الحالية، وحتى مسألة الالتزام بنموذج اقتصادي معين باتت قابلة لبعض التعديلات في الوقت الحالي. وكما جرى الحال، استخدام البنوك المركزية لصلاحياتها في وقت الأزمات، من حيث خفض أسعار الفائدة وضخ السيولة في الأسواق، أمر لا بد منه. ولكن وجود إجراءات احترازية جديدة، تكون مناسبة لظروف كل دولة، هو أمر أكثر إلحاحاً في مواجهة التطورات المستمرة.
لقد توجهت دول الخليج نحو إجراءات كحزم الدعم الاقتصادي السخية والإعفاءات من الرسوم الحكومية وخفض النفقات، وهي حلول موفّقة، ولكن تبقى مسألة الجهوزية ومرونة اتخاذ القرارات هي التحدي الأكبر مع مرور الوقت. فبعد أن تغيرت أنماط الاستهلاك، نظراً لبقاء الناس في بيوتهم، وبعد أن اتضحت إمكانية العمل في المنزل لبعض الفئات، هناك فرص تجارية سانحة يمكن استغلالها. وتجنباً لوقوع تحديات كالاحتكار أو ارتفاع الأسعار أو عدم توافر السلع أو عمليات البيع الجنونية كما حدث في دول أخرى، يجب تطبيق إجراءات صارمة ومبتكرة لتحول دون وقوعها بمجرد ظهور أي أعراض. هناك فرص وهناك تحديات تتطلب تكيفاً سريعاً على المستويات التشريعية والتنفيذية.
وبالطبع، لا غنى عن وجود إجراءات استباقية تحسباً لوقوع أي أزمة وحرصاً على استعدادية الاقتصاد لأي تغيرات طارئة في أي وقت. وفي هذا السياق، تجدر الإشادة بجهود مملكة البحرين الشقيقة التي كانت من أوائل الدول في بدء التشغيل التجاري لشبكات الجيل الخامس 5G تمكيناً للاقتصاد الرقمي وقطاع التكنولوجيا والمعلومات، وهو ما يمنح اقتصاد المملكة الآن قدرة تنافسية على العمل والتواصل بسهولة أكبر من غيرها خلال ما يمر به عالم اليوم من تنامي الحاجة إلى العمل وعقد الاجتماعات في البيوت.
ويبقى الدرس الأهم في تلك الظروف هو ما تعلمناه من الأزمة المالية العالمية السابقة في 2008، ألا وهو ضرورة التنويع الاقتصادي والاستدامة. لقد ترسخت أهمية فكرة التنويع الاقتصادي وعدم الاعتماد على النفط في دول مجلس التعاون الخليجي من تلك الأزمة المالية وأثبتت الأزمة الصحية الحالية أهمية التوجهات التي تبنتها المنطقة نحو تنويع الاقتصاد. أزمة "كورونا" هي دليل حي على ضرورة جهود الاستدامة تلك لأنها ستساعد على تمتع المنظومة الاقتصادية بمرونة أكبر في مواجهة المتغيرات، كما أنها تؤكد أهمية وجود نوع من الاكتفاء الذاتي فيما يتعلق بالسلع الأساسية.
ولأننا لا نعيش في معزل عن غيرنا، ودائماً ما تتأثر موازين العرض والطلب لدينا بما تمر به الأسواق العالمية، فيجدر التنويه إلى أن المنظومة الاقتصادية العالمية كاملةً تحتاج إلى تطوير قدرتها على التعامل التغيرات المفاجئة في أنماط الاستهلاك بشكل عام، وهو ما يستدعي مسؤولية جماعية تجاه تطوير وإصلاح النظام التجاري العالم.
لقد كان الركود الذي نشهده اليوم متوقعاً، وليس لهذا التوقع علاقة بحال القطاع الصحي، بل لأن الأسواق المالية العالمية حقاً لا تتحمل أي صدمات مشابهة لـ "كورونا"، ذلك نظراً للتواكل على البنوك المركزية دون اهتمام كاف بإصلاح الأسواق الائتمانية وتوفير شروط عادلة ومستدامة للاستثمار والتجارة، وقد اتضح هذا الأمر في تبني المزيد من المخاطرات الاستثمارية على مستوى العالم حتى مع انتشار الأزمة الصحية بعد أن تكونت لدى المستثمرين ثقة عالية في استعداد وقدرة البنوك المركزية على توفير السيولة عند وقوع الأزمات، ولكن جهود البنوك المركزية لم تكن كافية لاحتواء الأزمة مما أدى إلى تزايد الخسائر.
وفي الوقت الحالي، لا شك أن تحركات البنوك المركزية ستترك أثراً إيجابياً ولكن مسألة إقناع المستثمرين بالعدول عن اتخاذ قرارات غير مستدامة لن تكون سهلةً أبداً. أضِف إلى ذلك أنه ما من استراتيجية أو خطة واضحة تحدد كيفية الخروج من الأزمة وتحدد دور كل طرف في التعامل مع الأسعار والديون وحجم السيولة. سيكون هناك عجز مالي على الصعيد العالمي مما سيتطلب اتخاذ قرارات سياسية صعبة ووضع خارطة طريق لإنقاذ الأسواق والشركات التجارية.
يجب أن تكون هناك نقطة انطلاق محددة للإصلاحات الاقتصادية في مرحلة ما بعد "كورونا" استعداداً لأي أزمات أخرى، ولعل أهم مبدأ هنا هو أن صلاحيات البنوك المركزية وحدها غير كافية لإنعاش أسواق ذات نشاط محدود، والحل الحقيقي يكمن في استدامة ومرونة الممارسات التجارية والمالية والاستثمارية والتشريعية وقدرتها على التأقلم مع التغيرات المفاجئة التي لا مفر منها.

رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في إنفستكورب، رئيس مجلس إدارة بنك صحار