الدعاية والشائعات في أوقات الأزمات 2

مقالات رأي و تحليلات الأربعاء ٠١/أبريل/٢٠٢٠ ٢٢:٤٢ م
الدعاية والشائعات في أوقات الأزمات 2

د. محمد بن عوض المشيخي
أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الدعاية خطاب سياسي مؤثر، يستهدف تضليل العقول واستمالة وكسب قلوب الجماهير بأية طريقةٍ كانت، من أجل نشر الأفكار الدينية والمعتقدات السياسية والأيديولوجية، باستخدام الحيل والأساليب غير المشروعة، وعلى الرُّغم من أن حملات الدعاية ومضامينها تعتمد على وسائل الإعلام التقليدية كمطية أو وسيلة للوصول إلى الجمهور؛ لتحقيق غايتها وأهدافها السرية، إلا أن ثمَّةَ اختلافًا كبيرًا بين الإعلام الحقيقي الذي يقوم على الحياد، ويعتمد في رسائله على الصدق والموضوعية والتوازن، وبين الدعاية التي تتخذ من الكذب والنفاق منهجًا ومسلكًا للتأثير على غرائز المجتمع، فإذا عددنا الفروق التي تميز الإعلامي عن الدعائي، نجدها كثيرة، فالصحفي يضحي بكل ما يملك من أجل المهنة السامية التي يؤمنُ بها؛ لكونه اختار مهنة المتاعب، بهدف نشر المعلومة الصادقة والخبر اليقين، فهو كالشمعة التي تنيرُ للبشرية جمعاء دروبها، و يرتقي بالعقول إلى أعلى المراتب، على حين يبث خبير الدعاية أفكاره المسمومة؛ لتحقيق أهدافه الشخصية، وأهداف مَنْ يقف خلفه من السياسيين والانتهازيين، ولو كان ذلك على حساب المبادئ والقيم الأخلاقية التي هي في الأساس لا قيمة لها من منظور هؤلاء المُضلِّلين، مُسوِّقي الفتن والأخبار المزيفة.
وتُعرِّف المراجع العربية الدعاية بأنها " فنُّ إقناع الآخرين بأن يسلكوا في حياتهم سلوكًا معينًا ما كانوا ليسلكوه دون تلك الدعاية "، وبالفعل تهدف الدعاية والشائعات على حدٍّ سواء إلى إثارة الرأي العام على نطاق واسع، عن طريق نشر الأفكار والقصص والروايات التي تفتقد إلى المصداقية؛ بهدف التأثير على السياسات القائمة، والقوانين والأنظمة المتبعة في المجتمع المستهدف.
ويعود استخدم مصطلح الدعاية (Propaganda) إلى الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت أشهر مَنِ استخدم الدعاية كفنٍّ منظم للدعوة إلى المذهب الكاثوليكي المسيحي في القارة الأوروبية والعالم خلال القرن السابع عشر، وذلك عندما تشكل فريق من القساوسة عام 1633م ليتولى مهمة التبشير الخارجي، ولا تزال هذه الفرق واللجان تمارسُ عملها من المقر البابوي في الفاتيكان بجمهورية إيطاليا إلى يومنا هذا.
سياسيًّا شهد مطلع القرن العشرين سطوع نجم الخطاب الدعائي، وتطوُّر مفهومه في مختلف أرجاء العالم، خاصةً بعد ظهور وسائل الإعلام المعاصرة، كالصحافة الورقية، والإذاعة المسموعة، فقد غزت الدعاية الشيوعية الإلحادية العالم بُعَيْدَ وصول (لينين) إلى السلطة في روسيا؛ مما أدى إلى تأسيس أول دولة شيوعية في التاريخ أثناء الحرب العالمية الأولى، إذ يقول منظر هذا الفكر الهدام (كارل ماركس): " الدين أفيون الشعوب "، وقد انتشر الفكر الماركسي الاشتراكي في العالم، ولكن الكثير من الدول والشعوب نبذت هذه الأيديولوجية المتطرفة لاحقًا، باستثناء الصين وعدد قليل من الدول، ككوريا الشمالية وكوبا، ولا يمكن لأيِّ باحثٍ في الدعاية إغفال أشهر المنظرين في هذا الميدان على مستوى هذا الكوكب، إنه (جوبلز) الذي دخل عالم الدعاية من أوسع أبوابه، فهو الذي وضع أساس الدعاية النازية بعد اختيار الزعيم النازي الشهير (أدولف هتلر) له ليكون وزيرًا للدعاية والإعلام في ألمانيا إذ يقول: " إن الدعاية الناجحة تكمنُ في التركيز على بضع حقائق فقط، وتوجيه الناس مرارًا وتكرارًا إلى هذه الحقائق ".
وتنقسم الدعاية السياسية من حيث المصدر إلى الدعاية السوداء التي تخاطب غرائز وعواطف ووجدان الناس البسطاء ؛ بهدف السيطرة على عقولهم ومشاعرهم الإنسانية. وجرت العادة على أن هذا النوع من الدعاية غيرُ معروفٍ مصدرُه، فهي تختفي خلف الستار؛ لكونها تُمارَس من قبل أجهزة سرية معادية، ويفتقد عملها إلى المظلة القانونية، فهذا النشاط الدعائي يخالف الشرائع والأنظمة الدوليةِ، ولكنه يظهر عن طريق الحملات الدعائية، كالمنشورات السرية، والإذاعات المجهولة المصدر، فهذه الدعاية المستورة تعتبر بحقٍّ نوعًا من أنواع الحرب النفسية، خاصةً أثناء الحروب، والأزمات السياسية، والكوارث، والأوبئة، والأمراض الفتاكة، ويُعَدُّ الذبابُ الإلكتروني الذي يتمترس خلف المنصات الافتراضية في عصرنا، مثل (تويتر، وفيس بوك، وواتساب) وجهًا جديدًا من أوجه ما يُعرَف بالدعاية السوداء، وما تحمله من حرب نفسية تدميرية ضد البلاد والعباد، في حين تمارس معظم الحكومات في العالم النامي ما يُعرَف بالدعاية البيضاء؛ لنشر السياسات العامة التي تنتهجها الدولة أو النظام السياسي القائم، وذلك عن طريق الوسائل الإعلامية الرسمية والخاصة.
وتتميز هذه الدعاية بأنها تخاطب العقل، وتعتمد على المنطق في عرض الحقائق، ولكنها تنظر بعين الرضا للإنجازات التي تتحقق، ولا تُعِيرُ أيَّ اهتمام للنقد أو الجوانب السلبية، كالإخفاقات التي قد تصاحب أية تجربةٍ أو عملٍ للجهات الرسمية.
أما النوع الثالث، فهي الدعاية الرمادية، والتي تخلط الكذب بالحقائق، وتخاطب العقل والوجدان معًا، فهذا النوع من الدعاية يقومُ على بثِّ خطابٍ مزيفٍ وممزوجٍ ببعض الحقائق، يحتوي على ألفاظٍ تحتمل أكثر من معنى، مُحاوِلةً التمويهَ على الجهات التي تقف خلف تلك الدعاية.
وهكذا يحرص خبراء الدعاية على الاستفادة من جميع الوسائل المتوفرة لديهم، بغرض مهاجمة الإنسان، والتغلب على مقاومته، وإقناعه، ومحاصرته من كل الاتجاهات، فإذا كانت المدة الزمنية المحددة لانتقال الأفكار والرسائل الإعلامية والدعاية من القائم بالاتصال للجمهور تستغرق ما بين ثلاثة أسابيع إلى شتة أشهر على أقل تقدير؛ لكي تترسخ المفاهيم، ويتغير السلوك المطلوب من الحملة، فإن الشائعات تنتقل بسرعة البرق بين الناس، ويكون تأثيرها مباشرًا على المجتمع،
ومن هنا تأتي أهمية التعرف على واقع الشائعات في السلطنة، فالمراقب يلاحظ ارتباك وتأخر الجهات الرسمية العمانية في تعاملها وردودها على الدعاية والشائعات، فعلى سبيل المثال، نشرت بعض وسائل إعلام خليجية مزاعم تهريب السلاح للحوثيين من المنافذ العمانية، فلم يأتِ النفي العماني إلا بعد قيام وكالة رويترز العالمية بتكرار بث تلك الشائعات، فتعتمد معظم الوزارات والهيئات الحكومية على الحسابات الرسمية على منصات التواصل الاجتماعي وخاصة تويتر، إذ تدار هذه المنصات الافتراضية من قبل دوائر الإعلام والعلاقات العامة، في ظل غياب كامل لما يُعرَف بالمتحدث الرسمي الذي يمكن له إن وُجِد أن يقدم لوسائل الإعلام إيجازًا يوميًّا عن استراتيجية الحكومة وقراراتها في مختلف القضايا التي تهم المواطن.
اهليا ظهرت العديد من الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي؛ خاصة منصة (تويتر)، وذلك منذ مطلع هذا العقد، إذ يقوم هؤلاء الشباب المتطوعين بنفي الشائعات التي تستهدف المجتمع العماني. ويأتي في مقدمة هذه الحسابات (عمان بلا إشاعات) الذي يتبعه أكثر من 41 ألف شخص من المهتمين بالاطلاع على الحقيقة.
صحيحٌ أن الأمر تغيَّر في أزمة كورونا، فقد خصصت وزارة الصحة حساب باسم (#عمان_ تواجه_ كورونا_ كوفيد19)، إذ يتولى هذا الحساب نفي الشائعات المتعلقة بهذا الوباء الخطير ، كما أن بعض الصحف اليومية العمانية دخلت على الخط مثل (الشبيبة)، و(أثير)، وغيرهما من الصحف الإلكترونية، في نفي الشائعات من خلال منصاتها الإلكترونية.
ويجب التأكيد هنا أن الرد الناجح على الحملات الدعائية لا تُدار من قبل أفراد أو موظفين عاديين، بل يجب أن تُوكَل هذه المهام للخبراء المتمرسين والمتدربين على مهارات الاتصال والإقناع، كما يفترض من المختص في فن الدعاية أن يكون حاصلًا على شهادة عليا متقدمة في العلوم السياسية، وعلم النفس والاجتماع، بالإضافة إلى علم الاتصال الجماهيري.
وعطفًا على ما سبق ذكره، فإن خبير الدعاية شأنه شأن الفنان، لابد أن يكون صاحب مواهب عديدة في سرعة اتخاذ القرار، والقدرة على كتابة المضامين المتعلقة بالدعاية، وقبل ذلك كله أن يكون على اطلاع تام على ثقافة من يخاطب من المستهدفين.
وفي الختام، يجب تذكير المسؤولين عن الشؤون العامة في السلطنة، بأن الوقت قد حان لتوحيد الجهود، وجمع شمل مختلف الإدارات الحكومية والتطوعية المختصة بالشائعات؛ لكي تعمل تحت سقفٍ واحد؛ لحماية المجتمع من الداخل من هذه الأمراض الاجتماعية التي يُروِّج لها الخصوم، سواء كان مصدر هذه الشائعات من داخل الوطن أم من خارجه، فرصد الشائعات، وتحليل مضمونها، والتعرف على أهداف الجهات التي تقف خلفها، أصبح من أهم الأولويات في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ البلاد.