إدارة ملف الباحثين عن عمل

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ١٢/مايو/٢٠٢٠ ١٩:٤٢ م
إدارة ملف الباحثين عن عمل

د. محمد بن عوض المشيخي

أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

تعصف بالعالم التحديات والأزمات بطريقة غير معهودة؛ بسبب توقف عجلة الاقتصاد والإنتاج بشكل جزئي أو كلي في معظم دول العالم؛ بسبب جائحة كورونا، كما أن هناك أزمةً ربما تكون هي الأكبر والأشد وقعا على مجتمعات الخليج العربي، خاصةً بالنسبة للدول المعتمدة في موازناتها على النفط ومنها السلطنة ، ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال إيجاد حلول لها دون وضع خطط استراتيجية واضحة المعالم من الخبراء والمختصين بهذه الأزمات، خاصةً أولئك الذين خبروا تلك الأزمات وعاصروها، ولهم إنجازاتهم في إيجاد حلول لمثل تلك المعضلات الصعبة، خاصةً في مجال إدارة الأزمات، وفي مقدمة كل ذلك وضع الأشخاص المؤهلين وأصحاب السجلات النظيفة الذين يتمتعون بمصداقية عالية، ومشهود لهم بالكفاءة والأمانة لإدارة مثل هذه الملفات الساخنة، فلا يوجد مستحيل في هذا العالم، خاصةً إذا صدقت النوايا، وتضافرت الجهود الوطنية في اتجاه حلحلة التحديات التي تقف حجر عثرة في سبيل توظيف الشباب الذين هم أمل الوطن ومستقبل الأمة الذين ضاقت بهم الأرض، وضاعت أجمل سنوات أعمارهم في انتظار جهات التوظيف التي أُسنِدَت إليها هذه المهمة منذ سنواتٍ طويلة، ولكنها تتبع طرقًا وأساليب تقليدية قديمة، وغير مُواكِبة لطموحات الباحثين عن مصدر رزق بعد سنوات الدراسة التي أخذت أيضًا فترةً ليست بالقليلة من الجد والاجتهاد والكفاح للحصول على الشهادة.

أن تجد شابًّا أنهى الدبلوم العام في عام 2008م، ولم يُتَحْ له استكمال الدراسة الجامعية، ولكنه يتردد بشكل يومي على أبواب الوزارات المختصة، ويُفعِّل باستمرار سِجلَّه دون أن يحظى بوظيفة، وهو الآن يبلغ 30 سنة من العمر، في حين تجد خريجًا من الجامعة ينتظر فرصةً للتوظيف منذ عشر سنوات دون بادرة أمل في الحصول على وظيفةٍ توفرُ له رزقًا يعتاش منه، ومثل تلك النماذج السابقة عشرات الآلاف من الباحثين عن الأمل في إيجاد عمل في قادم الأيام، ويجب الاعتراف بأن الذين تولوا إدارة ملف الباحثين عن عمل في وزارة القوى العاملة قد اجتهدوا وبذلوا قصار جهدهم في سبيل تحقيق أهداف الوزارة، ولكن لم يُكتَب لهم النجاح حتى في سنوات الرخاء الاقتصادي، والطفرة النفطية، إذ تشير الأرقام المنشورة في نوفمبر 2019 إلى أن نسبة التعمين في القطاع الخاص لا تتجاوز 13% من إجمالي العاملين في القطاع الخاص، فهناك أكثر من مليون وستمائة وسبعين ألف وافد يعملون في هذا القطاع حتى نهاية يوليو 2019م، في حين تشير السجلات الرسمية إلى أن الوظائف القيادية التي يشغلها وافدون في القطاع الخاص تزيد عن 39 ألف وظيفة بنهاية 2016م، وكان بالإمكان أن تُعمَّن هذه الوظائف العليا لاستيعاب معظم حاملي الشهادات الجامعية والعليا من الباحثين عن عمل من العمانيين، وذلك إذا أُحسِن التصرف، وأُقنِعَ كبار التجار في البلاد بأن هناك مسؤوليةً وطنية تقع على عاتقهم لإحلال أبناء الوطن في تلك الوظائف.

أما وزارة الخدمة المدنية فلم تكن أفضل حالًا من وزارة القوى العامة، إذ كشفت الإحصاءات الرسمية أن عدد الوافدين العاملين في القطاع الحكومي حتى نهاية يوليو 2019م قد بلغ (54,885)، فمن المفروض أن يتم تعمين معظم هذه الوظائف، خاصةً في قطاعَيْ الصحة والتربية والتعليم، فلا يوجد أيُّ مبرر يمنع توظيف الكوادر العمانية التي تحمل شهادات عليا وجامعية في قطاع الخدمة المدنية، وذلك باتباع سياسة إحلال العمانيين في تلك الوظائف؛ فبعد خمسين سنة من تأهيل الموارد البشرية العمانية في الجامعات الوطنية، وكذلك مَنْ تم إرسالهم إلى خارج البلاد عبر عقود النهضة الخمسة، ألا يستحق هؤلاء شرف خدمة هذا الوطن أكثر من الوافدين ؟!

لقد استبشر أبناء هذا الوطن خيرًا بإنشاء المركز الوطني للتشغيل، والذي تم إشهاره في مطلع العام المنصرم؛ ليتولى استقبال المواطنين بداية يناير من هذا العام، حيث وُضِعَت الأهداف والاختصاصات لهذا المركز الذي يتبع مجلس الوزراء؛ لكي يقوم بما عَجِزَت عنه الجهات الحكومية الأخرى في مجال تعمين الوظائف في القطاعين الخاص والعام، ولكون المركز قد أخذ فترةً امتدت من بداية مارس حتى نهاية ديسمبر 2019م لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية الجديدة في حصر الوظائف التي يشغلها الأجانب، ثم الإعلان عنها للباحثين عن عمل من العمانيين، إذ كان الكلُّ ينتظر ساعة الصفر التي يعلن فيها المركز تنفيذ خطةٍ وطنيةٍ شاملة يُفترَض بها أن تستوعب معظم الشباب خلال شهري يناير وفبراير من العام الجاري، فإذا بالنتائج على أرض الواقع أقل من طموحات الجميع، فالآلاف من الشباب لا يزالون يطرقون أبواب هذا المركز، ويتشبثون بالوزارات المختصة بتوظيف القوى العاملة الوطنية، والتي هي في الأساس قد وصلت إلى طريقٍ مسدود في ملف الباحثين عن عمل، وبالأخص على مستوى إيجاد حلول مبتكرة ومناسبة لهذه المرحلة الصعبة في مجال التوظيف.

وعلى الرغم من أن (المركز الوطني للتشغيل) جهة قيادية منوطٌ به الاطلاع على الوظائف التي يشغلها الأجانب في مختلف القطاعات الحكومية والخاصة، ووضع خطط مرحلية لإحلال الكوادر العمانية، إلا أن تقارير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة قد كشفت للحكومة عن وجود أعداد كبيرة من الوافدين الشاغلين للوظائف القيادية والإشرافية في الشركات الحكومية منذ سنواتٍ طويلة، دون أن تحرك المجالس الإدارية والتنفيذية لهذه الشركات ساكنًا باتجاه إغاثة المحتاجين لهذه الوظائف من المواطنين خلال السنوات الماضية.

إن ما قامت به وزارة المالية قبل أسابيع قليلة من توجيهاتٍ كريمة باتباع سياسة الإحلال في جميع الوظائف التي يستحوذ عليها الوافدون في هذه الشركات، والتي كانت إلى وقتٍ قريب تستنزف أموال الخزينة العامة لتوزيع المكافآت لأعضاء المجالس الإدارية، ودفع رواتب عالية لرؤساء الشركات، لَهِيَ خطوة موفقة في الاتجاه الصحيح وإن جاءت متأخرة.

هناك ما يتم الآن تداوله على نطاقٍ واسع حول التقاعد الإجباري للذين أكملوا ثلاثين عامًا فما فوق في الخدمة، فإذا كان ذلك صحيحًا، فالأمل يراود الشباب الذين طال صبرهم وانتظارهم لإحلالهم في الوزارات والهيئات الحكومية التي من المفترض أن تنهي خدمات معظم الموظفين القدامى في كلٍّ من القطاعين المدني والعسكري، ولقد نجحت السلطنة دون غيرها من دول المنطقة منذ فترةٍ مبكرة في تعمين قطاعات البنوك والغاز والاستثمارات بنسبةٍ عالية، خاصةً في قطاع البنوك العمانية التي وصلت نسبة التعمين فيها إلى 94% بنهاية 2018م، والسبب في ذلك يعود إلى أن تعمين الوظائف العليا منذ ثمانينيات القرن الماضي قد ساعد على احتضان العمانيين الذين أتوا لاحقًا في الوظائف الإدارية ونظام الصيرفة والعمليات والعلاقات العامة، إذ إن الرؤساء التنفيذين ومدراء الفروع قد وفروا البيئة الحاضنة للمستجدين العمانيين في هذا القطاع الهام الذي يُقدَّر عدد منتسبيه بالآلاف.

ختامًا، فإن العقبات التي واجهت الجهات التي كُلَّفت بالتنفيذ والإشراف على ملف الباحثين عن العمل خلال السنوات الفائتة، والذي يزداد سخونةً يومًا بعد آخر، ويعتبر قنبلةً موقوتة قد تنفجر في أية لحظة، وتكون لهذا الانفجار تأثيراته السلبية على أمن المجتمع العماني واستقراره، خاصةً إذا ثبت لنا أن الخطط والاستراتيجيات المعمول بها حاليًّا قد تأكد عدم فاعليتها، وعليه فإن الآمال معقودة على القيادة الحكيمة لهذا البلد العزيز، في تشكيل لجنة طارئة لإدارة هذا الملف الوطني الصعب الذي لا يقلُّ خطورةً عن جائحة كورونا وتداعياتها المدمرة على السلطنة والعالم أجمع.