تقنين المخاوف

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٢٦/مايو/٢٠٢٠ ٢٠:٢١ م
تقنين المخاوف

محمد بن محفوظ العارضي

رئيس مجلس الإدارة التنفيذي في إنفستكورب، رئيس مجلس إدارة بنك صحار

كغيره من الكائنات الحيّة يتخذ الإنسان قراراته، بما فيها القرارات المتعلقة بأنشطة استخدام وتبادل أغراضه المادية، مدفوعاً بالعديد من المحفزات والدوافع التي تلعب فيها العاطفة دوراً عظيماً.
وانطلاقاً من هذا المبدأ، ظهر علم الاقتصاد السلوكي ليفسر نواحي كثيرة تنطوي عليها المعاملات الاقتصادية التي دائماً ما تكون لها صلة بمشاعر الإنسان سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومن أهم المشاعر الإنسانية، خاصةً تلك التي يتعاظم دورها في الظروف العالمية الاستثنائية الحالية، هي مشاعر الخوف، التي تتلون بالطابع الغريزي أحياناً وتوضع في قالب السلوكيات المكتسبة في أحيان أخرى.
فهناك ما يُعرف بـ "اقتصاد الخوف" وتندرج تحته أقسام كبيرة من الأنشطة الاقتصادية، ومنها قطاع التأمين والتكافل، الذي يلجأ إليه الناس لطمأنة أنفسهم أن في حال تقلبت بهم الأحوال لن تكون خساراتهم فادحة.
ولأن الخوف شعور أساسي لاستمرارية الحياة وبقاء الإنسانية، يعد اختلاط القدر الكافي منه بمعاملاتنا الاقتصادية اليومية ضرورة قصوى، إلا أن المغالاة في الخوف لها نتائج عكسية.
ومفاد هذا المدخل هو أن الخوف في إطاره العقلاني، أو الحذر بمعنى آخر، دائماً مطلوب، ولكن هناك من المخاوف ما تعيق تقدم الإنسانية وتثقل خطاها نحو آفاق جديدة من النمو، ودائماً ما تظهر آثارها السلبية مع ظهور التقنيات والممارسات المبتكرة في شتى المجالات.
الخدمات المصرفية المفتوحة مثلاً، هي أداة جديدة لتشجيع الشمول المالي وإحداث تطورات جذرية في القطاع المصرفي وقطاع التمويل، وذلك من خلال التعاون بين مؤسسات التمويل من جهة وشركات التكنولوجيا والبرمجة من جهة أخرى على تسهيل المعاملات بين الممول والعميل عبر القنوات الرقمية. إلا أن عملية وضعها في إطار تشريعي وتوعية الجمهور بها متباطئة، بحجة المخاوف المتعلقة بغسيل الأموال والهجمات السيبرانية، مما يحد من إمكانياتها في الوقت الحالي.
والتكنولوجيات الحديثة كالجيل الخامس للاتصالات 5G، التي يمكنها أن تقضي على البيروقراطية في الأجهزة الحكومية وجميع القطاعات بشكل عام، بالإضافة إلى زيادة الكفاءة وتسريع الإنجازات، تصحبها مخاوف حول أثرها على الصحة العامة والنظام البيئي والأمن السيبراني كذلك.
ولكن إذا نظرنا للأمر بشكل عملي، سنجد أن كل شيء في حياتنا تقريباً تصحبه فوائد ومخاوف، كالسكين التي لا غنى عنها في مجالات العمل المختلفة والاستعمالات المنزلية من ناحية وتعد أداة للجريمة من ناحية أخرى في الوقت ذاته. لذا لا بد من التعايش مع هذا النوع من التباين وأن نضعه في إطار قانوني متحضر عوضاً عن تفاديه أو المماطلة في تقنينه.
إن قدرة المنظومة التشريعية لكل دولة على حصر المزايا والعيوب واستشراف السيناريوهات المحتملة لسوء استخدام الممارسات الجديدة وطرق الردع المناسبة تعد عاملاً قوياً في الاستفادة من الابتكارات على النحو الأمثل.
وللمصارف المركزية دور حاسم فيما يخص المعاملات المالية لكل دولة، خاصةً وأنها مسؤولة عن التشريع ووضع المعاملات في أطر قانونية. لذا حان الوقت لتضع تلك المؤسسات في الاعتبار العديد من الابتكارات الحديثة التي كان من شأنها أن تخفف من أثر الظروف الاستثنائية الحالية، كالمعاملات المالية عبر الإنترنت التي تسمح بوجود طرف ثالث بين الممول والزيون وتقنيات التواصل فائقة السرعة وإمكانيات تخزين البيانات الواسعة.
إن وجود المصارف بشكلها التقليدي كما نراها اليوم، أي في شكل مبنى ومرافق ووجود معاملات تتطلب تواجد الزبائن وحضورهم بأنفسهم، سيصبح من الماضي في غضون سنوات قليلة.
ولأن مواكبة تلك التغيرات دون وجود نظام تشريعي ملائم يحمي الحقوق ويضمن الواجبات قد تكون لها عواقب كارثية، تتحمل البنوك المركزية مسؤولية تقنين المخاوف مع الأخذ في الاعتبار أن القدرة على مواكبة تلك التغيرات هي مقياس نجاح أسواق الدولة على المستويات المالية والاقتصادية.