"حفريات النص الشعري الجذري" للرباعي.. يحتفي بالتأويل

مزاج الثلاثاء ١٤/يوليو/٢٠٢٠ ٢١:٢٥ م
"حفريات النص الشعري الجذري" للرباعي.. يحتفي بالتأويل

عمّان- ش- العمانية
يحتفي د.عبد القادر الرباعي في كتابه "حفريات النص الشعري الجذري" بالهيرمنيوطيقا Hermeneutic))؛ أو التأويلية وتمثلاتها في تحليل الخطاب الشعري، وبما يندرج ضمن اهتمامات الناقد في القراءة الجمالية للشعر العربي في أصوله العريقة خاصة.

ويستهلّ الرباعي كتابه الصادر عن "الأهلية للنشر والتوزيع"، بفحص مرتكزات التأويلية من خلال آراء أقطابها المؤثرين أمثال: "شليرماخر"، و"دلتاي"، و"هيدغر"، و"جادامر"، و"بول ريكور". لكنه يفيد من نظريات ما بعد الحداثة أيضاً، مثل "السيميائية"، و"جماليات التلقي".

وللتأويلية في الكتاب أعمدة فلسفية تتمثل بمثلث يحمل أساسها الفكري. وأهم عناصره: "الفهم" أولاً، و"التفسير" ثانياً، و"التطبيق" ثالثاً. ولأن هذه العناصر تعمل على تحليل نص الخطاب، فإن عملها متشابك ومتحد في آن.

فقد ركز "جادامر" بشكل خاص على العنصر الثالث (التطبيق)، لأنه -بحسب ما يرى- تجسيد للمعنى وتطبيقه في ذات المؤول. ولهذا قال: "إن الانصهار الداخلي للفهم والتفسير يقود إلى العنصر الثالث في المشكلة التأويلية؛ أي التطبيق". وتعليقاً على هذا الرأي يرى الرباعي أن مصطلح "التمثل" قد يكون أقرب من مصطلح "التطبيق" إلى فهمنا للفن عامة، والشعر خاصة؛ ذلك لأن مرحلة التأويل مرحلة معقدة، فهي تتركز على فاعلية الذات بإقامتها حواراً داخلياً مع أبنية النص، وفراغاته، وتحيزاته.

ويؤكد أن هذه المهمة الصعبة تحتاج إلى ما هو أكثر من الفهم الأولي والتفسير الظاهري لمجموع تلك الأبنية. ومن أجل هذا لا بد من مرحلة أكثر حفراً في العمق تمتزج فيها ذات المؤول بكل حيثيات النص الداخلية على تشابكها وتقاطعها وتعقيداتها، ومن ثم الغوص في أبعادها المحتملة أو الممكنة، لاتخاذ موقف ذاتي يبلورها نص جديد ولّده التمثل الذاتي لقارئ النص قبل التأويل.

ووفقاً لما يرى الرباعي، لا تتكامل عملية الحفر المعمقة إلا بتقمُّص أبعاد النص السطحية والعميقة أو ما يكن تسميته "مرحلة التمثل"، وهي مرحلة شعورية إنسانية جمالية فنية تليق بعالم الشعر خاصة، والفن عامة. وهي تتجاور مصطلح "التطبيق" الذي يمكن أن ينصرف إلى تحقيق مفردات الفهم والتفسير آلياً، بعيداً عن الحفر الإنساني لبواطن النص. ولأجل هذه العملية الحفرية للمعاني الإنسانية الجوانية العميقة اختير مصطلح "حفريات" بدايةً لجملة العنوان/ العتبة الأولى.

ولأن مصطلح "الجذري" في العنوان قد يثير إشكالاً للفهم عند بعض القراء، يوضح الرباعي لوكالة الأنباء العمانية أنه منذ كتابه الأول "الصورة في شعر أبي تمام" (1976) كسر مفهوماً مكرَّساً للتفريق بين الشعرين القديم والجديد إبداعاً ونقداً، وهو مفهوم تبنّاه "نفرٌ محافظ ومؤثر في بعض الأوساط المعرفية والنقدية". وبدلاً من ذلك التفريق، يدعو الرباعي إلى أن نتعامل مع الفن والشعر على أساس الخصوصية الخاصة، بعيداً عن التصنيف الزماني والمكاني؛ لأن للفن - والشعر جزء مفصلي منه - روحاً تحيا بـ"الموهبة والإبداع والتشكيل الفني الراقي". ويضيف: "لقد كُرِّس ذلك منذ أن عرف التاريخ طبيعة الكلمة النابضة بالحياة والجمال والإنسان، زمن أفلاطون وأرسطو ومن تلاهما كالجاحظ والجرجاني وحازم القرطاجني. ومن ذلك الشعر اليوناني و الروماني إلى يومنا هذا".

وانطلاقاً من هذا، ينظر الرباعي إلى الشعر العربي نظرته لشجرة باسقة؛ جذرها في الأرض وعلوّها ممتد لا حدود له. ويتابع بقوله: "ما الشعر الذي أُطلقت عليه سمة العصور القديمة إلا شعر جذري، لكونه الجذر لكل ما نما منه كالشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر، وما سيتلو". وبناء على هذا الفهم لتأسيس مفهوم جديد للشعر العربي يتجاوز الزمن إلى الشكل، أطلق اسم "النص الشعري الجذري" بديلاً للنص الشعري القديم, وفي هذا السياق قرأ قصيدتين جذريتين، إحداهما لكعب بن زهير، وثانيتهما لابن المعتز. ومن بعدهما أعاد قراءة نماذج من التراث النقدي التطبيقي في ضوء النظرية التأويلية التي حمل مرجعياتِ آفاقِ مصطلحها الفصلُ الأول من الكتاب.

ويخصص الرباعي الفصل الثاني لقراءة النص الجذري الأول وتحليله (قصيدة البردة للشاعر كعب بن زهير)، وهي القصيدة التي اكتسبت اسمها وشهرتها لأن الشاعر ألقاها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُعجب بها الرسول الكريم وألقى بردته المباركة على شاعرها تقديراً لما فيها من معانٍ إنسانية عميقة وخيرة وسامية.

وإطلاقاً للفائدة التي اكتسبها المؤلف من الفكر النقدي العالمي، انقاد إلى أن يحلل قصيدة كعب تحليلاً سيميائياً تأويلياً. والتأويل كما هو معروف، يشكل العنصر الذي أضافه "بيرس" إلى السيميائية متجاوزاً به عنصرَي الدالّ والمدلول عند "دي سوسير". فقد أضاف إليهما "بيرس" –بحسب الرباعي- عنصراً ثالثاً هو "المؤول"، موضحاً أن السيميائية في أصولها الأولى تنتحي نهج البنيوية في سيادة المنهج العقلي لدراساتها حول الشعر والفن عموماً، إلا أن أعلامها المتأخرين انحازوا إلى المنهج الجمالي في النقد؛ وذلك بإعلائهم المعنى الإنساني، فالعلامة السيميائية عند "جيرالد لودال" مثلاً تُعنى بالرابط الجمالي بين عالم الإنسان وعالم الأشياء، في شكل فني ذي دلالات حية تنأى عن التجريد والجمود.

ويعدد المؤلف أمثلة مشابهة لدى كل من "إمبرتو إيكو" و"ريفاتير" و"روبرت شولتز". متوقفاً عند ما قيل حول المشاعر الإنسانية في السيمياء من مقدمة "جاك فونتيني" على كتاب "سيميائية الأهواء" الذي ألّفه مع "غريماس"، إذ يقول "فونتيني": "كان الحديث عن المشاعر وحالات النفس والأهواء في علوم اللغة في الخمسينات والستينات... مرادفاً لجرم علمي كبير؛ لذلك شكل تطور سيميائية الأهواء وحالات النفس... حدثاً منهجياً حقيقياً إن لم يكن إبستمولوجياً".

وتعقيباً على ما سبق، ينتهي الرباعي إلى القول: "إن التأويل الفني يقتضي الابتعاد عن الإغراق في المحفوظ من المصطلحات الجافة في النظريات النقدية، بما فيها السيميائية ذاتها، وإنما بتحويل ذلك كله إلى لغة حية تستخرج المخزون الانفعالي من النص، وتؤدي إلى تحفيز المتلقي وإمتاعه".

وهذا ما انتهجه الرباعي في قراءته لقصيدة "بانت سعاد" (أو البردة) لكعب بن زهير". فقد مكّنه منهج النظرية السيميائية بتمثلاتها الجمالية الجديدة من تحليل نصّي نوعي للبردة، بحيث أتت نتائج هذا التحليل السيميائي مختلفة عن نتائج الدراسات السابقة للبردة، وذلك من حيث التحول عن القراءة المباشرة إلى القراءة المستبطنة للجمل، والفقرات، والأقسام الشعرية، والصور الفنية، والإيقاعات الموسيقية؛ وتلونها ارتفاعاً وانخفاضاً بحسب درجات الانفعال في اختلالات مجرى النص المتباينة حدّ التناقض أحياناً.

ويختصر الرباعي كل ذلك بعبارة يختم بها تحليله المطول: "كان تحليل الخطاب الشعري للبردة توسّلَ بالسيمياء منهجاً ونظرية، ولكن بعد سلوك طريق جدلي تحفيزي لأفكار متضاربة، أو ما يمكن تسميته (سيميائية الجمال)، التي تتجاوز حدود الزمان والمكان إلى التعالي فوق القيود والجمود لديهما".