23 يوليو بين إشراقتين

مقالات رأي و تحليلات الخميس ٢٣/يوليو/٢٠٢٠ ٢٢:٠٩ م
23 يوليو بين إشراقتين

بقلم - أحمد بن عيسى الشكيلي

لم يكن الثالث والعشرون من يوليو 1970 يومًا عاديًّا في مسيرة عُمان الحديثة، لم تكن إشراقته كإشراقة ما قبله من أيام، كان استثنائيًا لأرضٍ تكالب عليها الثالوث المدمّر، فما بين فقرٍ، وجهلٍ، ومرض، كانت تئنُ نفوس العمانيين ألمًا، وما بين فرقة شملٍ، وتشتت صفٍّ، واقتتال داخلي عاش العمانيون حياتهم، لا بارقة أمل تلوح في الأفق القريب، ولا ضوء يسطع في آخر النفق ينبئ بأن القادم سيكون أفضل، هكذا كانت الحياة تقيّد الأحلام بالأصفاد، حتى ملّت النفوس، وكلّت الأبدان.
ولكن من رحم المعاناة وُلِد الفرج، ومن شدّة الألم سطع الأمل، ومع اشتداد العسر جاء اليسر بتوفيق الله، جاء على هيئة بشرٍ سويًّا، صادحًا بصوتٍ طالما تأمل العمانيون سماعه، "أيها الشعب سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبلٍ أفضل" ، السعادة التي نهبتها ظروف الحياة، هي أحد الأحلام التي كُتب لها أن تموت سريعًا في ذلك الزمان، كما كُتب لأنفسٍ عديدة أن تموت إما متأثرة بمرضٍ لم تجد له دواء، أو برصاصةٍ يحركها جهل أو أطماع كانت تبحث عن موطيء قدم في الأرض العمانية، هذا عوضًا عن موت العقول في الأجساد فظلام الجهل لا نور يزيله إلاّ سطوع العلم كالشمس في رابعة النهار.
تردد صوتُ النداء الجديد ليعم عُمان بأسرها، باتت تتناقله الأفواه فلا وسيلة أخرى تستطيع أن تخترق تضاريس عُمان بين سهلٍ وجبل، فصاح حُداة الركب بالبشرى :
" صوتٌ للنهضة نادى
هبّوا جمعًا وفرادى
قابوسٌ للمجد تبادى
فابنوا معه الأمجادا
يا أبناء عُمان الأجوادا "
نعم قابوسٌ للمجد تبادى ... قابوس الإنسان ابن هذه الأرض الطيبة التي لا تنبتُ إلا طيَّبًا كما قال عنها ذات حين، جاء قابوس ليمثّل ميلاد أمة كانت على شفا حفرةٍ من الوقوع في براثن كثيرة، فأمسك الزمام، وقطع العهد على نفسه، "إني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي أن ابدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية، وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها"، ما كان كلام لسان تخدّر به المسامع، ولا وعود متسلّق جاء لمطامعٍ يبني له بها مجدًا، فقد بدأ القائد الشاب عملية التجديد والتطوير في الحكومة التي يعوّل عليها أن تنقل عُمان إلى المرحلة الجديدة التي رسمها في مخيلته، مستندًا في ذلك على ما تيسّر له دراسته في مجال إدارة الشؤون المحلية، ومتكئًا على إرثٍ عُماني عظيم يمكن أن يكون مُلهمًا متى ما توفرت الإرادة والعزيمة نحو التطوير، وهذا ما تأتى لقابوس الذي حرص أن تكون عُمان في مكانها المرموق الذي تستحقه، فصدق وعده، وأنجز عهده.
جاء قابوس طيّب الله ثراه وفق مرتكزاتٍ أراد لعُمان الحديثة أن تؤسّس عليها نهضتها في مسيرتها القادمة، وهذه المرتكزات ما كانت لتعلو أركانها على أرض عُمان أو خارجها، لولا التعاون الذي أبداه ذلك الشعب المتعطش لأن يرى عُمان بهيئةٍ جديدة، ترتدي ثوبًا قشيبًا تسطع أنواره المشرقة للعالم أجمع، ذلك الشعب الذي أرهقه حمل قواه مرضٌ ينخر جسده، لم يعرف لشفائه سبيلا.
ولأن عُمان كيانٌ عظيم ليس وليد ذلك اليوم فقط، فكان من المرتكزات الأولى للنهضة القابوسية الحديثة الحفاظ على الأمجاد العُمانية، وصون الماضي الذي خلّفه السلف، " كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، و إن عملنا باتحادٍ وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي "، ولأن من حق الأوطان على أهلها خدمتها وصون مقدراتها ومكتسباتها؛ فقد اتحد الشعب مع القائد، وتعاون معه لأجل بناء عُمان الغد، عُمان التي ربما جاءتهم ذات حلم فحسبوه أضغاثًا تقض مضاجعهم التي ما كان هنالك شيئًا يجعلها هانئة وادعة، التفّوا حول القيادة الجديدة متخذين من الثالث والعشرين من يوليو نقطة انطلاق لعالمٍ أرحب يجعلون فيه من أحلامهم حقيقة ماثلة للعِيان، يحطّمون أصفاد الجهل، ويكسرون قيود التشرذم، ويهدمون كل بناءٍ كانت غايته الفرقة والتناحر، فالمستقبل لا يقبل المتأخرين، ويلفظ من لا يمتلك أدواته :
بثلاثة و عشرين يوليو قد حطّم اصفادا
وأزاح ظلاما عنّا ولوانا بالمجد تهادا
صافحنا الفجر باجفانٍ ورفعنا الأعناق صعادا
ومحونا كل فسادٍ وفرحنا شعبًا و بلادا
ومن كانت على عينه غشاوة اتضح له مع الأيام أن عُمان هي أسمى الغايات، وأن الوطن لا يبنيه إلا أبناؤه، وأن نتحد لأجل عُمان خيرٌ من أن نتشرذم لأجل أجندات خفية، أو مطامع أُسست على باطل، فتحطّمت الأصفاد، وتصاعدت الأعناق تتطلع لمستقبلٍ أفضل تكسوها عزّة وشموخ العُماني الذي أثبت على مدى حقب التاريخ المختلفة أنه لا يساوم على وطنه، ولا يميل عنه.
" كان بالأمس ظلام ولكن بعون الله غدا سيشرق الفجر على مسقط وعُمان وعلى أهلها"، إنه الظلام الذي حاصر الأرض العُمانية من كل جانب، لم يتسنى للخيط الأبيض من الفجر أن يزيح هذا النوع من الظلام، فلا ظلام يفوق ظلام الجهل والتخلف، والعيش ببدائية مفرطةٍ في منطقة بدأ الجوارُ فيها يعيش فنون الحضارة الجديدة، وبدأت الأخبار تأتي من كل حدبٍ وصوب على ما يشهده العالم حولها من تحولات عديدة نحو الحياة، الانفتاح الآخر، والنهل من العلوم، والرقي بالبشر، واتساع الأفق نحو الغد الباسم، ذلك الظلام الذي هجّر العمانيين من موطنهم بحثًا عن لقمة عيش، أو سعيًا لكتابة حرفٍ، أو تعلّم كلمة، فتوزعوا ما بين الأقطار، إما عبر سُفنٍ تجري بهم في موجٍ كالجبال مجابهين أخطار بحرٍ لُجي لكي يتنفسوا طعم الحياة، أو عبر راحلةٍ أضناها الجوع فما قويت حمل أسفارهم، فتقطّعت بهم السُبل في أرضٍ لا يرون لها نهاية، يلفحهم هجير الشمس، أو يقرصهم برد الشتاء.
وما إن أشرق الفجر الجديد؛ أشرقت عُمان بنورٍ ربّها، أخذ بريقه يتسع شيئًا فشيئًا من دهاليز قصر الحصن العامر، إلى رؤوس جبال مسندم، فتعاظم العطاء، وصغُر المستحيل الذي كان بالأمس كالجبال، فبدأت الأيدي المباركة تُعمّر الأرض لأجل المستقبل الأفضل الذي كان يرنو إليه من جعل عُمان شغله الشاغل وكل شيءٍ حوله وحواليه، وأيدٍ أُخرى في ميادين الحق والواجب تذود عن حِمى الوطن وتُرسي دعائم الأمن الذي باستقراره تحقق لعُمان ما لم يتحقق لغيرها، فابتهجت النفوس، وارتاحت الأجساد من عناءٍ كان يجثم على صدورها، فسعُدت عُمان وأهلها:
" تيهي يا أرض عُمان تيهي يا خير الأوطان
فخرا بالأمجاد تشاد عودا لتراث الأجداد "
لم يكن البناء سهلاً، ولم تكن البدايات ممهدة طرقها، ولكن على قدر أهل العزم أتت العزائم، فارتفعت سواري العلم العُماني في السهل والجبل، كما ارتفعت في الجوارِ المنشآت في البحر كالأعلام، ومدّت عُمان أياديها للجميع سلمًا وسلامًا بدءً بأبنائها الذين غررت بهم ظروف الحياة، فجاءت " عفا الله عما سلف" برهانًا أن القائد ما جاء ليثأر أو يقتصّ ممن وقفوا ضده في أحلك الظروف، بل جاء ليقول أن الوطن للجميع، وعمارته واجبٌ علينا جميعًا، وأن عُمان ستبقى الأم الرؤوم التي لا تتخلى عن أبنائها، كما مدّت أياديها سلمًا وإخاءً للآخر فتقاطرت الوفود عليها، وأثبتت السياسة العُمانية أن عُمان صديقة للجميع بما فيهم أعداء الأمس، ليس من ضعف، بل من قوة تعتمد على ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) .
ومضت الأيام سراعًا وقابوس يسير بذات النهج الذي عهده شعبه عليه، لم يتوانى عن تحقيق العهد الذي قطعه على نفسه، بل كان المُحدّث المُجدد الذي أعمل جهده، وبذل وقته، وأنفق شبابه وصحته لتكون عُمان على ما نحنُ عليه الآن، تسعة وأربعون عامًا وأبناء عُمان يحيون الثالث والعشرين من يوليو بين تلميذٍ عاهد نفسه على :
" و أنا التلميذ سأبقى من أجل العلم مجاهد
من بعد الحرمان من التعليم أُقيمت للعلم معاهد"
أو فلاّحٌ استشرف لعُمان عهدًا جديدًا، بما رآه من إخلاص القائد ووفاء الشعب لهذه الأرض التي تستحق أن يبذل لأجلها كل غالٍ ورخيص، هذه الأرض التي أعطت برغم العناء، وأجادت برغم ما اعترضتها من صعاب :
" أنا فلاح .. من يأمل للزرع نموا
أنا من يغرس في أرض عُمان فخرا و عُلّوا
فينابيع الأرض ستجري و من الماء ستروى
و سنزرع بالعلم .. و نكبح للجهل غلوا
يا أرض ابتهجي يا خيرات ادني بالخير دنوا"
لم يبخل قابوس على عُمان بشيء، فكان يجوب سهلها وجبلها، بيدها وحضرها، لأجل المواطن الذي جعله هدفًا للتنمية وغايتها، فشُقت الطرق في قمم الجبال وبين كثبان الصحراء، كما ارتفعت أعمدة المدارس التي كان يتعلّم طلابها تحت ظلال الشجر، وتزايدت الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن، بدأت التنمية تطوف بعُمان مدعومة بفكر قابوس الذي حرص على أن يتابع كل التفاصيل بنفسه، ترافقه أينما كان دعوات شعب مُحبٍ مُخلص له، فسارت عُمان على درب الرخاء، وأتيح لشعبها أن يُسجّل تأريخًا جديدًا لم يبن على سفك دم، أو إزهاق روح، أو تدمير لغيره.
كان شأن عُمان أبرز ما يؤرق السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه، فحمل عُمان معه أينما كانت تحط رحاله في الداخل والخارج، يتكئ على حجارة السيوح، أو مستندًا على جذع شجرة، رسم أحلام عُمان الغد، ومن خلفه شعبٌ ما أكلت الصعاب عزيمته، وما استطاعت الدنيا أن تلهيه عن حُب عُمان الأرض التي ألف هواءها وماءها، فعاهدها :
" يا عُمان نحنُ من عهد النبي
أوفياءٍ من كرام العرب
أبشري قابوس جاء
فلتباركه السماء"
ومضت السنون والأيام وعُمان على ذات العهد وفاءً وولاءً، أمنًا وأماناً بما أرساه قابوس من دعائم جعل من التربة العُمانية تربةً طيّبة لا تنبتُ إلا طيّبًا.
ولأن الدنيا لا تدوم على حال، ولكل روحٍ تعيش عليها أجلاً مسمى، فقد شاءت الإرادة الإلهية أن تشرق شمس الثالث والعشرين من يوليو المجيد هذا العام دون قابوس، اليوم هو ذات اليوم الذي يتكرر في روزنامة الأيام على مر السنين، إلا أن أبرز ما ينقصه قابوس. قابوس الذي جعل لهذا اليوم وقعًا عظيمًا في نفوس العُمانيين جميعًا، يأتي الثالث والعشرين من يوليو الخمسين وقد سبقه رحيل رجل بأمّة، لم يكن رحيلاً عاديًّا، فقابوس لم يكن مجرد قائد أو سلطان، بل كان الأب الحليم لكل العُمانيين، أحبته منا القلوب فاستوطن مُهجها، وملأ العيون به، حتى أغمضت عليه الأهداب .
رحل قابوس رحيل الأبطال العِظام، رحيلٌ لم يسبق لعُمان الحديثة أن تُرزأ بمثله، بكته القلوب ألمًا، وأعتصرت وجعًا يكاد تجد أثره في نفس كل عُماني، رحل قابوس، وما تزال ذكراه في كل مجلس وبيت، وما تزال الدعوات له تطرق أبواب السماء أن يكرمه الله برحمته الواسعة ومغفرته العظيمة، رحل قابوس عن الأرض التي أحبّها وأحبته، عن البلاد التي أخلص لها فبادلته الإخلاص بمثله، رحل وجعل كل شيء لعُمان مصداقًا لحديثه " لا شيء لي فكله لعُمان وأهلها" .
رحل قابوس وبقت من بعده عُمان شامخة بذات الشموخ الذي كان يقفه مستعرضًا طوابير قواته المسلّحة، ورأسه مرفوعًا للسماء بكل عزةٍ وفخار، رحل قابوس وبقت عُمان لشعبها وسلطانًا جاء ليكمل مسيرة من سبقه، سلطانًا توسّم فيه قابوس طيّب الله ثراه القدرات التي تؤهله لقيادة السفينة، والذي عاهد شعبه بدوره أن يترسّم خُطى السلطان الراحل، لتعلو عُمان في عهده الزاهر بمشيئة الله كل هامة، وترتقي كل قامة، مدعومة بإرادة شعبها، وفكر قيادتها :
"فارتقي هام السماء
واملأي الكون الضياء
واسعدي وانعمي بالرخاء " .