صناعة السلام في عصر النهضة

مقالات رأي و تحليلات الثلاثاء ٠٩/يوليو/٢٠١٩ ١٥:٠٥ م
صناعة السلام في عصر النهضة

بقلم - مهرة الزبير

يروي التاريخ لنا قصصا عن ماضي عمان مقارنة بما نحن عليه اليوم من تقدم ونماء رغم التحديات الداخلية والخارجية التي مرت بها. فوضعنا اليوم ليس وليد الطبيعة أو الصدفة، وإنما هو ثمرة صبر وجهد وكفاح وعناء بذل على مر السنين لأجل أن ننعم اليوم بما تحقق لنا من أمن ورفاه واستقرار.

أجريت فيما مضى بحثا حول السياسة الخارجية العمانية وتعلمت منه كثيرا عن تاريخ البلاد بأمجادها المتلاحقة من جهة والاضطرابات التي عانت منها من جهة أخرى واكتشفت أعماق هذا التاريخ بحرية التأمل والتساؤل. لقد وعيت في فترة البحث ولأول مرة الأحداث التي مرت بها عمان قبل وبعد بدء عصر النهضة المباركة والعقود الأربعة التي سبقتها.

وتعرفت على العوامل المؤثرة والخطوات والقرارات التي اتخذت وساهمت في بناء السياسة الخارجية العمانية والتي لا تزال تساهم باستمرار في استدامة حفظ أمن البلاد وغيره من مجالات الحياة.

فعندما يدرس المرء ويتمعن في الأسس والركائز التي بنيت عليها هذه السياسة والتي تساهم في إيجاد حالة السلام، يزداد تقديره وادراكه لواقع وضع البلاد، لأنه سيعي الحكمة التي تشكلت من ورائها هذه السياسة المميزة في المنطقة. وحين يتبين للمرء أننا نعيش في أمان وسط منطقة مليئة بعدم الاستقرار، فإننا نعلم حينها أن هناك جهدا كبيرا يبذل لتحقيق ذلك..جهد يبذله أبناء الوطن تحت قيادة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه – ورؤيته الحكيمة.

لربما كنت سابقا غير واعية بما فيه الكفاية بواقع هذه السياسة لأنني ولدت في زمن لم يعرف أو يرى فيه إلا السلام. فمن البديهي لشخص وُلد في هذه الظروف أن يشعر بأن السلام حالة طبيعية. ومن خلال مناقشات مع عدد من الأشخاص محليا، لاحظت انتشار هذا الانطباع في كون السلام حالة طبيعية – حيث تغير معي هذا الانطباع خلال البحث لأني اصبحت أكثر وعيا بواقعيات تحقيق هذه الحالة. فعندما نقول بأن الشيء أتى من الطبيعة، فكأننا نقصد بأنه وهب إلينا ولربما هو شي يسهل الحفاظ عليه. بينما في الواقع، فان المحافظة على السلام أمر شاق نظرا لكوننا بشر ولدينا اختلافاتنا ولكل شخص توجهاته الخاصة. ان تحقيق العيش السلمي – من منظوري – هو بتحقيق التوازن بين الاختلافات وإيجاد نقطة التقاء بينها للوصول الى حالة من التوافق والاتحاد. وللتبسيط، فان تحقيق العيش السلمي في المجتمع يكون بتوفير أسس الحياة الكريمة للإنسان، حيث أنه عند غياب هذه الأسس تنمو الاضطرابات وتتعاظم المشكلات، كما يرويه لنا التاريخ. ولو أن السلام هو حالة طبيعية لاختلفت أوضاع العالم. فمن العوامل الرئيسية التي جعلتنا نُعرف كبلد مسالم هي السياسة الحكيمة التي اتخذها جلالة السلطان – حفظه الله – والتي حققت الأمن والاستقرار وجعلت العالم ينظر الينا هكذا.

ولابد من الإشارة الى وجود علاقة متبادلة وارتباط وثيق بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية والتوازن بينهما يؤدي الى إيجاد حالة السلام، وكذلك مكانة السياسات ودورها في تمثيل البلدان على مستوى الدولي، وآثارها المحتملة بأن تصبح هوية رمزية للبلد.
لم يأت السلام الذي نعيشه اليوم بسهولة، ولم يأت الينا من الطبيعة، وإنما هو حصيلة جهد واجتهاد. ان إدراك هذه الحقيقة منحني الحافز لتحليل الأمور بنظرة واقعية وبتقدير أكبر لما تتمتع به عمان من أمن واستقرار. كانت عمان في الماضي امبراطورية ممتدة جغرافيا وعُرفت بتجارتها وبقوتها البحرية. واليوم تُعرف السلطنة بسياستها الخارجية المتوازنة والمستقلة. ولأن موضوع البحث ركز على السياسة الخارجية في عهد جلالة السلطان قابوس – حفظه الله – فإن استيعابي لهذا النهج من السياسة قد أتى من خلال دراسة الخطوات التي اتخذت منذ بزوغ عصر النهضة وعلى مر عقودها. وفي نهاية دراستي لهذا الموضوع، وجدت نفسي منبهرة وشاكرة... شاكرة للقيادة التي حققت ذلك في منطقة مليئة بالتحديات. فلم تكن الخطوات والقرارات سهلة ومتقبّلة من جميع الأطراف المختلفة، ولكن الهدف الأسمى كان لضمان الحفاظ على سلامة البلد في المقام الأول. كما أن تلك الخطوات والقرارات لم تتخذ جزافا، بل كانت بناء على أسس معلومة وعلى بصيرة مستنيرة ووفق رؤية بعيدة المدى، وفهم الآخرين، واستيعاب واقع السياسات العالمية، واحترام سيادة البلد وسيادة الآخرين، وبكف الأذى وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير. أسترجع هنا سؤال طرح علي وهو: «لماذا استطاعت عمان أن تتخذ هذه الخطوة بينما لم تقم بها دول اخرى؟» وكانت الإجابة واضحة: «بسبب اختلاف القيادة». توجد نقاط متعددة للإجابة على هذا السؤال، ولكن يمكن ايجازها اختصارا بنص من مقابلة أجرتها آن جويس (Anne Joyce) محررة بمجلس سياسات الشرق الأوسط (Middle East Policy Council) مع جلالة السلطان قابوس – حفظه الله – في سنة 1995م. وكان سؤالها كالآتي: ”انك محبوب على نطاق واسع كقائد مستنير. ما هي الجوانب التأثيرية الرئيسية في شخصيتك؟ وما هي الأفكار والمفكرين والمعلمين والخبرات التي شكلتك كقائد؟“ الجواب (مترجم): ”بالطبع، هناك العديد من المؤثرات التي تؤثر على الشاب وهو يتقدم نحو النضج. فبالنسبة لحالتي، كان إصرار والدي على دراستي الشاملة لديني وتاريخ وثقافة بلدي له عظيم الأثر في توسع مداركي ووعيي بمسؤولياتي تجاه شعبي والإنسانية عموما. كما استفدت أيضا من التعليم الغربي وخضعت لنظام حياة الجندي وهو ما يمكن القول بأنه اوجد لدي توازنا.

وأخيرا كانت لدي الفرصة للاستفادة من قراءة الأفكار السياسية والفلسفية للعديد من أبرز المفكرين الأوائل في العالم. وفي بعض الحالات، بالطبع، وجدت نفسي في خلاف مع الأفكار التي عبروا عنها، الا أن هذا الخلاف في حد ذاته أثبت قيمته في تطور آرائي المشكّلة، وفي تقديري للحاجة إلى النظر الى جميع جوانب السؤال.“

ويبين هذا الجزء من المقابلة نهج جلالة السلطان قابوس – حفظه الله – الذي ساهم بشكل كبير في صياغة أسس السياسة الخارجية ويمكن تلخيصه في ثلاث نقاط مهمة وهي:
أولا: يجب الأخذ بعين الاعتبار جميع جوانب السؤال أو الموضوع أو القضية. هذه النقطة مهمة في دراسة وفهم السياسة الخارجية العمانية الحديثة لأنها تعتبر نوعا ما انعكاسا لشخصية جلالة السلطان البصيرة. وربما قد يكون هذا تفسيراً لكيفية تشكل هذا النوع من السياسة.
ثانيا: كما نستنتج من الفقرة السابقة أيضا أهمية الانفتاح على الآخر وتقبل وجود آراء مختلفة. فعندما ينظر الشخص الى السؤال أو الموضوع أو أي شئ من جميع جوانبه، فانه يتعلم من وجهات النظر المختلفة ولذلك يتسع منظوره وفهمه للجهات وتقوى معاملته لأنه لا يصبح فقط واعيا عن نفسه وبيئته المحلية المحيطة به، بل يكون أيضا على دراية بالبيئة العالمية. وحينها يكون أقدر على تكوين الأفكار واتخاذ القرارات المناسبة.
ثالثا: أهمية التنشئة الأولى في تكوين ثقافة الشخص. حيث أسهمت عدة أمور بشكل فاعل في تكوين الشخصية الحكيمة لجلالة السلطان قابوس – حفظه الله – ومنها تجربته التعليمية، واطلاعه الواسع اثناء دراسته وخدمته العسكرية في الخارج. وندرك هنا مدى أهمية التربية والتعليم والاطلاع على التجارب العالمية في تحديد قناعات الإنسان.
ختاما، ان الربط بين الواقع الذي نعيشه اليوم - الذي هو نتيجة القرارات والمواقف التي اتخذت سابقا – ومعرفة الدوافع التي قادت إليها، هو ما غرس فيني وعيا حقيقيا مكنني من تقدير قيمة السلام. لا بد من العمل على نقل المعرفة بأسس السياسة الخارجية العمانية إلى الأجيال المتلاحقة ليكونوا أكثر وعيا بها، ولكي تمكنهم من الصمود في وجه التأثيرات والأفكار الدخيلة الهدّامة - أياً كان مصدرها.

كما ان ذلك الوعي جعلني أشعر بعظمة المسؤولية الشخصية للمساهمة في الحفاظ على هذا الاستقرار ودعمه بكافة الوسائل الممكنة سواء أكان ذلك بصورة عملية أو من خلال التوعية الذاتية التي تمكّن من نقل المعرفة الى الآخرين، حيث أن التوعية مهمة وستساهم في جلب المنفعة للمجتمع والوطن بشكل عام.