اتحاد مالي وسياسي في أوروبا

مقالات رأي و تحليلات الأحد ١٧/ديسمبر/٢٠١٧ ٠٥:٤٢ ص
اتحاد مالي وسياسي في أوروبا

داني رودريك

كان وزير المالية الأسبق في اليونان يانس فاروفاكيس وخصمه وزير المالية الألماني السابق ولفجانج شوبل على خلاف حول الديون اليونانية طوال فترة حكم فاروفاكيس كوزير للمالية. إلا أنهما اتفقا تماماً عندما تعلق الأمر بمستقبل منطقة اليورو: يتطلب الاتحاد النقدي اتحاداً سياسياً. ليس هناك حل وسط.

هذه كانت إحدى اكتشافات فاروفاكيس المثيرة للاهتمام خلال فترة ولايته كوزير للمالية. وقال شوبل لفاروفاكيس: «ربما تكون الوحيد في «المجموعة الأوروبية» الذي يعي أن منطقة اليورو غير مستدامة». وأضاف «إن منطقة اليورو مبنية بشكل خاطئ. يجب أن نكون متحدين سياسياً، ليس هناك أدنى شك في ذلك».

بطبيعة الحال، كان لدى شوبل وفاروفاكيس أفكار مختلفة بشأن الغايات التي سيخدمها الاتحاد السياسي. واعتبر شوبل الاتحاد السياسي وسيلة لفرض انضباط مالي قوي على الدول الأعضاء من المركز، وتقييد أياديهم ومنع السياسات الاقتصادية «غير المسؤولة». ويعتقد فاروفاكيس أن الاتحاد السياسي سيخفف من خنق الدائنين على اقتصاده وسيوجد مجالا للسياسة التقدمية في جميع أنحاء أوروبا.
ومع ذلك، من اللافت للنظر أن هذين المسؤولين من الاتجاه المعارض للمشهد السياسي وصلا إلى تشخيص مماثل حول اليورو. ويشير هذا التوافق إلى الإحساس المتزايد بالحاجة إلى اتحاد مالي وسياسي في نهاية المطاف للحفاظ على اليورو دون الإضرار بالأداء الاقتصادي أو بالقيم الديمقراطية. وقد قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أفكارا مماثلة. كما قام زعيم الديمقراطيين الاشتراكيين الألمان، مارتن شولتز بدعم «الولايات المتحدة الأوروبية» في الأيام الأخيرة.
ولكن هناك أيضا وجهة نظر بديلة أقل طموحاً، تقضي بعدم الحاجة إلى اتحاد مالي أو سياسي. وبدلا من ذلك ينبغي إبعاد التمويل الخاص عن المالية العامة، مع عزلهما عن بعضهما البعض. وبهذا الفصل، يمكن دمج التمويل الخاص بشكل كامل على المستوى الأوروبي، في حين يترك التمويل العام للدول الأعضاء. وبهذه الطريقة، يمكن للبلدان أن تجني الفائدة الكاملة من التكامل المالي بينما تترك للسلطات السياسية الوطنية حرية إدارة اقتصاداتها. لم تعد بروكسل ذلك الغول المخيف بعد الآن،الذي يُصر على التقشف المالي، ويسبب غضب البلدان إثر ارتفاع معدلات الباحثين عن عمل وانخفاض النمو.
وكان مارتن ساندبو من صحيفة فايننشال تايمز مؤيداً قوياً للرأي القائل بأن الاتحاد النقدي والمالي عملي ولا يتطلب التكامل المالي. فهو يعتقد أن الإصلاح الحاسم يكمن في عدم تقديم السلطات العامة أي مساعدة مالية للبنوك. وينبغي أن يدفع أصحاب المصارف والدائنين سعر الفشل المصرفي؛ كما لا يجب أن تكون هناك مساعدات مالية للشركات المفلسة.
ويرى ساندبو أن هذا لن يقتصر على عزل المال العام عن حركات البنوك فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى توازن يحاكي تقاسم المخاطر المالية بين البلدان المٌقترضة والبلدان الُمقرضة. فعندما تفشل المصارف في البلدان المٌقترضة، فإن الدائنين في البلدان الُمقرضة سيتحملون التكاليف. وقال «مع وجود اتحاد مصرفي، ليست هناك حاجة للاتحاد المالي». وفي كتاب قادم، يوضح الاقتصادي باري إيتشنغرين من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، أسباب إعادة تأميم السياسة المالية، الذي يعتبره أساسيا لوقف موجة الشعبوية الأوروبية. ويعتقد ايشنغرين أن إعادة السياسة المالية إلى السلطات الوطنية تتطلب منع البنوك من تحمل الكثير من الديون الحكومية، من أجل التقليل إلى أدنى حد من خطر إساءة الإدارة المالية الوطنية للنظام المصرفي. ويتعين على الحكومات التي تمر بالكساد أن تعيد هيكلة ديونها بدلا من طلب مساعدة دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
ويعترف مؤيدو حل المشكل بين المالية الخاصة والعامة بأن نهج الحكومات تجاه المصارف يجب أن يتغير جذريا لتحقيق النجاح. لكن ليس من الواضح أن تدابيرهم المقترحة ستكلل بالنجاح. وما دامت السياسة الاقتصادية تتحكم في الحكومات الوطنية، فمن المحتمل أن تستمر المخاطر السيادية في تشويه عمل التمويل عبر الحدود. يمكن للدول السيادية دائما تغيير القواعد، مما يعني أن التكامل المالي الكامل أمر مستحيل. ولا يمكن ترشيد تكاليف الصدمات المالية المحلية وتنويعها بسهولة.
ويجب أخذ ما يحدث عندما يفلس بنك كبير في الولايات المتحدة بعين الاعتبار - وهو اتحاد اقتصادي حيث تطبق قواعد ساندبو وإيشنغرين بالفعل. وتقتصر الآثار الاقتصادية الإقليمية على حقيقة أن المقترضين الآخرين يمكنهم الاستمرار في العمل بشكل طبيعي: فالجدارة الائتمانية تحددها أساسيات المقترض وليس الولاية التي يقيم فيها. ولا يتوقع أحد تدخل حكومة الولاية في الدفعات بين الولايات، أو تعيد كتابة قواعد الإفلاس، أو تصدر عملتها الخاصة عند حدوث أزمة مالية شديدة.
وتمارس حكومات الولايات في أمريكا القليل من السيادة إلى حد كبير، لأنها أقل حاجة إليها: يتلقى سكانها تحويلات من المركز ويرسلون ممثليهم إلى واشنطن العاصمة للمساعدة في خلق السياسة الاتحادية.
لكن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في موقف مختلف جدا إزاء مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل. ولأنها تحتفظ بالسيادة، فإنها لا تستطيع أن تحول دون تدخل التزامات مماثلة في الأسواق المالية. لذلك فاٍن الصدمة المالية الشديدة في الاتحاد الأوروبي سوف تؤثر على جميع المقترضين الآخرين في نفس البلد بطريقة مرضية. إن التظاهر بأننا قادرون على فصل القطاع الخاص عن المالية العامة قد يؤدي إلى تفاقم دورات الازدهار والكساد المالية بدلا من اعتدالها.
وفي المجتمعات المعاصرة، يجب أن يخدم التمويل مصلحة عامة تتجاوز المنطق الربحي للسوق المالية. لذلك فالتمويل أمر سياسي بكل تأكيد - لأسباب جيدة وسيئة على حد سواء. ويبدو أن صناع السياسات المحافظين والتقدميين يستسلمون لهذا الواقع.

أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية الحقوق بجامعة هارفارد جون ف. كينيدي للإدارة الحكومية.

داني رودريك